بحث في الموقع

حكايات هي العناوين الفرعية لرواية (الربع الخالي) لأستاذنا الكبير عابد خزندار. فقد اختار لها فضاء ضيقاً، هو عبارة عن معتقل، لكنه فضاء يتسع؛ لتمر من خلاله قضايا تاريخية كبرى، وكأنه يحقق إحدى مكاشفات النفري في كتابه المعروف بالمواقف،

وليشكل مدخلاً من مداخل الأدب بمقولته (كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة).فالحكايات التي تبدأ من أم المدائن، مكان مولد بطل روايتنا، لتنتهي في الغرف الضيقة في السجون، تكتبُ تاريخاً سرياً، لا أظن أن جيلنا المعاصر يعرفها، أو على أقل احتمال يهتم بها الآن للأسف، لكنها مراحل تاريخية تتسلسل بشخصيات متنوعة، تثري حكايات، نعرفها من أفعالها وصفاتها ومواقعها في الحياة.يبدو أن الكاتب ظل يحتفظ بسرية الأسماء، ويستحيل أن تجد اسم أي من شخوصه، لكن ربما نعرفهم من تشخيص أفعالهم. فالشخصية الأولى التي رمز لاسمها مرة أو مرتين بعامر الخماش شخصية قاتل. وللقارئ الكريم أن يتصور طالباً فاشلاً عائداً من أمريكا؛ ليدير أعمال والده الثري.كان يصرف من تلك الثروة الكثير، يبذلها في البارات ولعب القمار ومدارة لفضائح، ولما عاد ليتابع مشروع طريق في الصحراء، رسا على والده بمئات الملايين، ارتكب جريمة قتل أحد العمال في شركة والده في وسط الصحراء.خرج المصري القتيل في عاصفة اجتاحت الربع الخالي، فصدمه عامر، وحاول نقله، لكنه مات، وزج به في السجن مع بطل روايتنا.الزمن أو التاريخ لا يعني شيئاً للسجين؛ لأنه يعيش خارج التاريخ.(رواية الربع الخالي).فالشخصية المصرية لم تقحم في النص عبثاً؛ فقد كانت شخصية مركبة بوجهين؛ لتحكي وضع العمال المأساوي في الداخل، وتحكي الوضع الداخل في مصر في نهاية الستينيات بعد حرب أكتوبر، وهذا بالضبط هو الزمن الذي تدور فيه أحداث روايتنا.وسأضطر للقفز على أحداث كثيرة مشوقة في الرواية؛ لنقف على المفاصل المهمة في خطابها عند كل رواية من حكايتها. فالمصري القتيل الذي يعمل في شركة قاتله الثري، ويحمل إرثاً مأساوياً في بلده وهموماً تثقل كاهله، دُفن في النهاية كمجهول، رغم أن والد القاتل يستطع دفع دية مئات القتلى، فضلاً عن أنه أحد عماله. وإذا كانت المرأة هي العلامة الفارقة في توجه أبطال شخوص روايتنا؛ إذ نجد أن سهى الفلسطينية التي كانت بديلة لمونيكا الأمريكية، فرضت شخصيتها على بطل روايتنا الأول الثري الطالب في أمريكا، وجعلته يدفع لتنظيمات عربية ويهودية فوق مصاريفها الشخصية، فإن ابنة الضابط في تنظيم الضباط الأحرار في القاهرة تعد مفتاحاً لشخصية بطل روايتنا الذي وُلد في الربع الخالي لأبٍ يربي الإبل، ويتاجر فيها؛ ليكمل البناء الروائي الذي بدأ مع الشخصية الأولى، وتنامى من خلال شخصية المصري القتيل؛ ليكتمل في الشخصية الثانية الطالب الذي يدرس في القاهرة؛ ليكشف لنا الفضاء الخارجي الفسيح لرواية تدور داخل غرف مظلمة موحشة.(وكل ما أعرفه من المرأة استخلصته من الكتب، فالجزء الذي أمضيته من حياتي في الكتب أكثر من الذي أمضيته في قاع الحياة وصميمها ونسائها، ولا أدري لماذا قلت له ذلك، لا ضير، فهو لن يفهمه، والمرأة في حياة العربي إما أن تكون زوجة وإما عشيقة). (رواية - الربع الخالي). وينقلنا بطل روايتنا إلى (حكايتنا) حكايته كولد حارة مثقف في أم المدائن، يقرأ روايات نجيب محفوظ، وشجعه على القراءة مكتبة والده التي كانت غنية بالكتب الثرية.لم يكن يدخل في صراعات أولاد الحارات كصديقه وزميل الدراسة في الحارة (م. ص) عميد معهد التقنية؛ إذ سيكون شريكه في غرفة بالمعتقل في مفاجأة كبيرة. وهنا فالراوي في الحكايات التي يقول إنها مستلهمة من ألف ليلة وليلة، وهي أقرب للخيال منها إلى الواقع، وللرمز منها إلى الوصف، يسهب في وصف تفاصيل الماضي بحكايات مثقف في عباءة سارد؛ لتنبئ عن النهايات الحزينة التي كان يجدها في روايات نجيب محفوظ.فمصير شخوصه إما السجن وإما الاستسلام للقدر المحتوم، ولم تبق كما كان مألوفاً في حكايات ألف ليلة ولية التي أدمنها.ويكشف لنا الراوي في هذا الفصل من الرواية سبب حضور الشأن المصري مع كل شخوصه، فمصر ذات صلة بالبعثات الطلابية الأولى، وهي مصدر لوعي وتنوير مبكر. وإذ تكاد المرأة تغيب نهائياً عن جسد رواياتنا حتى أمل، وكانت تحضر وتغيب في محطات من حياته، فربما كانت شقيقة صديق الطفولة والدراسة، فلم يكن هناك مدارس لتعليمهن، لكن الراوي في طوفان سيل الذكريات بين المعتقل والطفولة يذكر حكاية المشهد القبيح لضباط مع سجين أجنبي، كما يتذكر محاولة عالم ديني التحرش به؛ ما جعله ينفر من رجال الدين بالذات بعد أن عرف الإخوان المسلمين في مصر والتكفيريين الذين يشاركهم المعتقل. وبطل روايتنا التي تحفل بعدد من أسماء الكتّاب والأدباء المصريين المثقف الذي لا يبهر بطه حسين والعقاد، وقد أصبح طالباً في القاهرة، يختلط مع أدبائها، يستغرب لما يقول له سلامة موسى متبني قضايا النهضة، وكان مبهوراً به، يزوره في بيته (لماذا تأتي إليّ وعندكم أعظم مفكر في العالم العربي «عبد الله القصيمي»؟ ويجب أن تقرأ كتابه هذه هي الأغلال).ولما استفاد من عفوٍ عام وخرج إلى عالم الحرية كانت مصر وجهته وعلامات التغيير هنا وهناك بادية على بطل روايتنا الذي لم تستهوِه الأحزاب الشيوعية والدينية، لكنه كان يحلم بالمدينة الأفلاطونية، ويشعر في أعماقه بـأن عليه ديناً لا بد من سداده؛ ليستفيد من مرحلة دراسته بالقاهر وعلاقاته وصداقاته؛ ليصل إلى عائلة القتيل المصري الذي كان ضحية لعامر الخماش الثري؛ ليسدد لهم الدية من حسابه الذي تراكم في فترة اعتقاله، فتتوالى المفاجآت بداية من رفض خطيبة المصري القتيل الذي كان شيوعياً، وقبول مجرد الحديث مع بطل روايتنا؛ لتنتهي به الرحلة مع خريجة الجامعة الأمريكية ميرفت، وقد كانت خطيبة لصديقه (م. ص) وزميل دراسته وابن حارته، وقد سكنا معاً في القاهرة، الذي انتقل بعد سجنه إلى الدار الآخرة، ليجدها فجأة وقد أصبحت تتردد على الفنادق الفاخرة لتبيع جسدها، وحينما تعارفا وتذكر كل منهما الآخر تحول الكلام إلى حديث عن أليوت وبودلير وجيمس جويس ومسرحيات شكسبير.ولا بد أن يظهر الصباح، وينتهي الكلام المباح، كما في ألف ليلة وليلة، أو كشف المستور كما هو في العالم السردي، فبطل روايتنا الذي خرج نهائياً من السجن يكشف أن عودته للسجن كانت بسبب سهام زوجة القتيل المصري الشيوعية، وزواج عامر الخماش من مونيكا الأمريكية وإفلاسه بعدما سلبت ثروته، وزواج بطل روايتنا من (أمل) التي كان يقرأ لها في طفولته ألف ليلة وليلة، ويراسلها مدة بقائه في المعتقلات، وظلت تنتظره، وأنها لم تكن قريبة إلا لخشية أمه من وقوع المحظور بينهما ليعيشا في ثبات ونبات.كلام كثير يمكن أن يقال عن الرواية الأولى للأستاذ عابد خزندار لن ينتهي، ولكن سردي للأحداث والإشارات المتوالية يمكن أن يوفي عما أردت قوله بلا تنظير.فالرواية المنتمية زمانياً ومكانياً تعوض تصاعد الحدث البطيء أحياناً، ومحاولة الكاتب حشر معارف تاريخية ثقافية فكرية، ربما قضت على العفوية والتلقائية التي لا تحتملها رواية من هذا النوع.
----------------------------
المصدر: صحيفة الجزيرة