بحث في الموقع

كانت هذه الرواية المميزة (الفردوس اليباب) للكاتبة الزميلة ليلى الجهني، السبب المباشر في خروج جماعة السرد من نادي القصة جمعية الثقافة والفنون بالرياض، وتلك حكاية تروى قبل أن نلج معاً عالم الكاتبة الروائية المميزة، فقد كنا نجتمع في دورية منتظمة لنتناقش، ونتحاور ونطلع على كل جديد في الفضاء والعالم السردي، ولنا برنامج يعدُ الفضل فيه للزميل الصديق الأستاذ خالد اليوسف

، ولخالد فضل كبير على عدد من كتّاب السرد وأنا منهم، فقد كان يحتفي بكل ما ينشر من نصوص قصصية وكتابات سردية، ويجعل لكل كاتب ملفاً خاصاً به من الجنسين، ليسهل على الباحثين ودارسي هذا المنتج السردي المتراكم، إمكانية الحصول عليه وفي هذا بلا شك جهد عظيم، كان من المفروض أن يطوَّر بالطاقات البشرية والمادية، ويعتنى به كمركز لدراسات فن السرد، ولكن القصة التالية تكشف حجم اللامسؤولية في نشاط المؤسسة الثقافية، وطبعاً - يستثنى الصديق اليوسف من هذا التعميم -، وهناك نماذج مثله مجيدة في الوسط الثقافي، لم تُعطَ الفرصة كاملة لتنضج مشروعها، وحتماً خالد قد استفاد من ذلك الرصد لعالم السرد، ونراه الآن يأتي تباعاً عبر مشروعه ورصده الكتابي عن عالم السرد، وأجزم أنه لو كان يجد الدعم الكافي، لشكّل لنا مركزاً للدراسات تستضيء به الأجيال.

وتلك الليلة تغير برنامج جماعة السرد، ووجدنا ضيفاً لم يكن في برنامجنا لا نحن ولا خالد، فرض على برنامجنا من إدارة الجمعية للثقافة والفنون، وكان شاعراً عراقياً نسيت اسمه الآن، وقد أصبح الآن سفيراً للعراق في حكومة المالكي، وكان حينها مشرفاً على مشروع ثقافي (كتاب في جريدة) الذي خصص له جريدة في كل دولة، تصدر من الخليج إلى المحيط، وهي تحمل مضمون هذا كتاب، ليتلافاه القارئ في كل الأقطار العربية ، ويتمكن من قراءاته في الفترة ذاتها.

رواية الفردوس اليباب، كانت هي الكتاب المحلي الوحيد الذي نشر في هذه الجريدة، وإذا تجاوزنا عملية الاختيار وكان لنا عليها تحفظات، لكون الذين يختارون المنتج المحلي من خارج الحدود، فقد جاء نشر الرواية مشوهاً ومبتوراً، وحينما كان مسؤول النشر العراقي في مواجهتنا تلك الليلة، فنزلت أسئلتنا الاستفهامية عليه نحن (جماعة السرد) كالصاعقة، وحاوره الدكتور سلطان القحطاني والمبدع حسين علي حسين والراحل الكبير إبراهيم الناصر الحميدان رحمه الله، وكان الضيف محتشداً بما يكفي لما بدأت أسئلتي، لينفجر الرجل بلا مبرر في وجهي، قائلاً:

- هل تريدوني أن أكون مناضلاً بالنيابة عنكم؟!

حينها لم يكن لنا من بد إلا الانسحاب، وترك المكان والنادي له وللذي أحضره، فالمؤسسة الثقافية التي لا تحسن اختيار ضيوفها، ولا تحسن خدمة أدب وأدباء بلادها ، تستحق المقاطعة والرفض، وقد كان.

أستعيد الآن هذه الحكاية بعد عقود من حدوثها، وقد جاءت حول رواية الفردوس اليباب التي صدرت عن منشورات الجمل عام 1999م، وأجزم أن كثيراً من مواقع الخلل، وقصور الرؤية ما تزال تجد لها مكاناً في المؤسسة الثقافية، وأجزم أن السؤال المطروح هنا – ماذا عن الرواية التي أثارت كل هذه الإشكالية، وشكلت هذا الحوار الصاخب، وجعلتني أبدأ بها سطور زاويتي؟

رواية الفردوس اليباب، كانت من أولى البواكير الروائية، وكانت لاسم يكاد يكون غير متداول حينها، وحينما تكون الكتابة بقلم وفكر وإبداع نسائي، فستكون بحجم الدهشة في مجتمع، يستغرب وجود النص الروائي، فكيف به يكشف المستور وبقلم أنثوي؟

أردد دائماً، أن الرواية فن شامل تدخل في نسيجه كل الفنون، والرواية فن مدني يتكئ على التراكم المعرفي والزماني والمكاني، فلا غرابة أن تتخذ الزميلة الكاتبة ليلى الجهني، مدينة جدة (الفردوس) كمكان وفضاء لعالم روايتها البكر، وتتخذ من قضايا المرأة خطاباً لروايتها الشيقة، وصبا إحدى بطلات الرواية الرئيسية، تبثُ لصديقتها خالدة وتكشف لها معاناتها، وكأنها بلغة شفافة تعرّي وجه المدينة:

- أجل، ربما ليس لي في هذه اللحظة غير جدة، حتى طفلي ليس لي، تخيلي !، ربما كان ينبغي عليّ أن أفكر في اقتحام لا في اقتحام الحب، على الأقل يا خالدة كي لا أقف مثل هذه المواقف بين يديك، ربما كان عليّ أن أخلص لجدة وحدها وأكتب عنها، عن التناقض الذي ترفل فيه ويجعلها جميلة أحياناً، عن الشوارع العريضة بمعالمها المتباينة: الكنداسة، السيف، الدراجة، النورس، عمارة الملكة، فتيحي، الجمجوم، أو ربما كتبت عن الأمريكيات (وربما كن أوربيات، لست أدري في ذلك العمر، كانت كل امرأة بشعر أشقر وعيون ملونة)، أجل الأمريكيات اللائي كن يقدن سياراتهن في شوارع جدة منذ زمن بعيد، ربما منذ أكثر من عشرين عاماً، الآن يا خالدة، لا الأمريكيات ولا غير الأمريكيات يحلمن بقيادة سيارة واحدة في شارع خلفي من شوارع جدة. ص 10

في هذه الجزئية من الرواية ، يمكن كشف عوالمها التي تتخذ من قضايا المرأة الشائكة موضوعاً لها، وتقتحم هذا الواقع المعاش لعوالم النساء الحقيقية، وهي في مجملها قضايا إنسانية في النهاية، فالخطأ الذي ترتكبه الأنثى لا بد لها من رجلٍ يشاركها فعل الخطيئة، ولكن في المجتمعات المتنقلة يتم تبرئة الرجل، وجعل المرأة ضحية لفعل، ربما دفعت لارتكابه، والكاتبة لم تغفل استحضار نماذج عربية وعالمية مثقفة، كالسعدني ودرويش وكرستوفر وشكسبير وغيرهم بحكم دراستها للغات الأجنبية ، لكن الألم الطافح على جسد رواية مسهبة في تدفق المشاعر، وكتبت بلغة رفيعة ومزجت بين البساطة والجمال، لم تلغ متعة سيجدها الباحث بين السطور.

ولم تفاجئني ليلى في روايتها الثانية جاهلية، وهو تخطو من جديد نحو المشاعر السامية (الحب) بين البشر، فقد كسبت الخبرة الكتابية وجاءت اللغة رفيعة هنا – والتكنيك الروائي بارعاً، لكن ما زال الصراع المعاش في واقع مجتمع، يحفل بالطبقية وأفكار القبيلة ومبادئ يرفضها المسلم الحق، والكاتبة تلجُ هذا العالم من جديد، فنكاد نلمس لب المشكلة في هذا المدماك الذي جاء كالتالي:

هل أخطأتْ عندما أحبت رجلاً أسود؟ هل ارتكبت ذنباً في حق الله أو الناس؟ لقد أحبت إنساناً، أحبّت قلباً من ذهب، ولم تنظر إلى اللون، لكن أخاها لم ينظر إلّا إلى اللون، فعاقبها. قال لها أبوها:

- إن الناس لن تنظر إلّا إلى لونه وسيعاقبونك. وأنا لا أريد لك أن تتعذبي.

لم يدرِ أبوها أنّ أخاها سيكون أولّ من يعاقبها. هي أيضاً لم تدر ِ- ص 51.

هذا المقطع القصير المستل من رواية (جاهلية) للكاتبة الروائية ليلى الجهني، والمقطع واضح يعبر عن جاهلية طبقية عنصرية مذهبية في مجتمعنا، وليلى ليست نشازاً في تناولها هذا الواقع، الموغل في التشبث بالمفاهيم والقيم المجتمعية البالية، والمحاصرة للمرأة والرجل على حدٍ سواء، فيأتي نتاج المبدع محمود تراوري، بدءاً من روايته الأولى الممتعة ميمونة، فلا يخلو من شذرات لملمح في تناوله لهذه الخاصية، وسنجد هذا عند الأمير سيف الإسلام بن سعود في روايته الذائعة الصيت (قلب من بنقلان)، ولكن المبدعة نورة الغامدي في روايتها (وجهة البوصلة) نفذت إلى هذا العالم مباشرة، وتناولت موضوع (الرقيق) في صورة أخاذة، وهي تحاور (فضة) بطلة روايتها المبهجة في شخصيتين متناقضتين لفضة.

الشيء المشترك في الروايات النسائية المذكورة هنا - حضور موجز لحروب الخليج، وكان يجب أن لا يخلو عمل روائي محلي من ضوء على تلك الحروب؟.

تناولت الرواية المحلية في جانب منها، ألواناً من التميز المجتمعي، ورصدت كثيراً من الفوارق المجتمعية في صور متنوعة، لكن ليلى الجهني تناولت الموضوع من زاوية مختلفة، وأقرنت ذلك بمشاعر الحب، لتمضي بين حقول الألغام الشائكة، وليأت الانفجار الأول من شقيق البطلة هاشم، فالبطلة لين قارئة ومثقفة وعاملة وتعيش حياة مستقرة، تختلف عن حياة شقيقها الذي يستطعن بصديقه أيمن، ليفتك بعشيقها مالك الإنسان المسلم، فكسروا أضلاعه وساقه اليمنى وأدخلوه في غيبوبة مميتة، ليقتلوا حباً غير متكافئ بين بنت أصيلة، وإنسان هامشي دخيل وأسود البشرة، ويمكن ملاحظة دلالة الأسماء..

وتأخذ الرواية منحنيات أخرى، وتحمل ضفائر متنوعة في نسيج مجتمعي، محمّل بكثير من التناقضات، ومنها شذرات وبيانات تبدأ بها الكاتبة بعض فصول الرواية، كحروب الخليج المتوالية ولم تسلم منها ولا رواية محلية، ولكننا نرى في روايتنا شخصيات لافتة بحضورها على سبيل المثال، هاشم شقيق لين أحد شخصيات الرواية المأزومة، يتمدد بأفعاله الخارجة على القانون في جسد النص، ليؤكد النظرة المجتمعية المتناقضة تجاه الأبناء، رواية ممتعة فعلاً تحقق فن السرد ببساطة متناهية وبلا تعقيد.

لقطة أخيرة:

• أنجزت قبل شهور الدكتورة انشراح صابر، جزائرية.. رسالة دكتوراه في الرواية السعودية، وقامت الدكتورة انشراح التي ناقش رسالتها عدد من أساتذة الأدب في جامعة الجزائر، بدراسة (17) رواية سعودية للجنسين منها رواية الفردوس اليباب، ودراسة الرواية السعودية خارج الحدود في جامعات العالم، تؤكد قوة هذا المنتج الروائي، لكونه يعكس واقع مجتمعات محافظة، ولا تزال بحاجة إلى كشف المستور، لتؤكد أن الأدب هو النافذة الصادقة لمعرفة الشعوب.

شكراً دكتورة انشراح، إذ رميت كرة النار في مدرجات الأقسام الأدبية في الجامعات السعودية، فقد نادينا كثيراً بضرورة وجود مراكز أبحاث ودراسات، وأعلم أن هناك عدداً يُفتخر به من الدراسات لهذا الجنس الأدبي الشامل، ويتصل بي بعض الباحثين وبالذات المرأة من جامعات بعينها، ولكن أعلم أن هناك دراسات انتقائية لبعض المشرفين والباحثين في جامعات أخرى، تخضع لشروط غير علمية وغير أدبية مثلاً تصنيفات الرواية النسائية، للقفز على القضايا والمشاعر الإنسانية المشتركة، لأنها تنبع من رؤية قاصرة ، تنطلق من تصنيفات ضيقة مقيتة، فلا فرق بين كتابة وكتابة إلا بقيمتها وفكرها وليس جنسها، ولا بد أن يأتي يوم بإرادة الله، لتسليط الضوء على هذه الممارسات الخاطئة لكشفها وفضحها.