بحث في الموقع

سعد أحمد ضيف الله*

قرأتُ أخباراً عن رواية «غيوم امرأة استثنائية» للروائي أحمد الدويحي قبل أن أقرأ الرواية، وهذه ليست من عادتي، لكن في بعض الأحيان تصل الأخبار بينما الكتاب يصعب الحصول عليه، وذكر الدويحي نفسه في تدوينة خطها بأنامله على حائطه بـ«فيسبوك»

عن مشكلات النشر والتوزيع لدينا في المملكة والعالم العربي، وهذه حقيقة، فروايته - مثلاً - صدرت عام 2013، ولم تعرض على رفوف المكتبات إلا في 2015، كطبعة أولى.

الدويحي رصد من خلال هذه الرواية التغييرات التي أحدثها دخول المجتمع السعودي إلى العوالم الافتراضية على شبكة الإنترنت، وما نتج منها من تحولات في مفهوم التواصل الاجتماعي، وذلك من خلال حكاية الصداقة عبر «فيسبوك» بين فيصل الستيني المتزوج من سارة التي أنجب منها ابنته الوحيدة خديجة، وبين الشابة ليلى ابنة السمرقندي التي لم تجد سبباً مقنعاً حتى الآن من جعل جدها ينتزع ابنها فتياً لم يبلغ الحلم، ويأمره ويتجه به إلى قبلة المسلمين، مكة قلب العالم، ليقرر مصيره وحياته من بعد. أخذت ليلى تنهال على فيصل بسرد حكايتها مع أهلها وتعثر زواجها، مما أثر عليها ندباً وجروحاً عميقة عايشتها وخلفت في نهايتها ولداً حرمت من رؤيته، فراح فيصل يخفف عنها حزنها ويتسامر معها في أحاديث شاعرية. ومن خلال السرد تتكشف حكايات جانبية متعددة ومتشعبة، كقصة زواجه من سارة، وذكر سبب تسميته فيصل الذي غيره جده كي يحيى بذكرى راحلة، كذلك اسم زوجته سارة التي أطلقت عليها الجارية جواهر اسم حلاوة.

تتحول الرواية بعد ذلك إلى معاناة فيصل في شيخوخته وتعب ذاكرته، ومرور حياة بلعها الصمت ووجع طويلين، وبؤس خيانات متعددة شهدتها سفراته العديدة، يبعثر شهوات طفرة المال بين يديه، سمعت سارة بعضاً مما يردد لها، وأغلقت أذنيها عن الأخرى، وصبرت وتحملت ألم الخيانة، ومررت غلطاته تلك، كأنثى وابنة عم، سيمس عاره آخرين، وصمتت فلن يضطر أن يبتلع الألم أحد إلا هي وحدها، وبلعت السر والوجع والمرارة، فأصبحت المفردات بينهما كرصاصات قاتلة، «إذا خرجت من الحمام نظف نفسك والحمام مرة ثانية، وخلي مكانك وملابسك يا ولد الناس نظيفة»، بعدئذ انشغلت هي بالصيام والإفطار الجماعي مع جاراتها، بينما بدأ الوهن يغازل أطراف فيصل، ويداعب المستقبل ذاكرته المتعبة، وينهش ماضيها أيضاً في اللحظة ذاتها، فوجد في شبكات التواصل الاجتماعي فرصة سانحة ليقضي فيها جل وقته، فبرزت له ليلى كصديقة افتراضية على النت، وأحيت فيه الجمود والتكرار النمطي في الحياة.

هذا هو المسار العام للرواية، وهي بحسب الظاهر قصة اجتماعية بسبب ما تحاول أن تقدمه من تحليل للعلاقات الأسرية والاجتماعية وربط لها بخلفيات نفسية وفكرية، لكن الدويحي اتبع في سرده استطرادات كثيرة، خصوصاً بعد ما اتضحت الصورة كاملة في الفصول الخمسة الأولى - من 26 فصلاً - مما بطئت في تقدم الأحداث، فكان هناك حكايات جانبية اجتماعية، ومنها سياسية ومنها تاريخية، فكان كل منها يصلح أن يكون رواية مستقلة، مما اضطر المتشوق للسرد الروائي أن ينتظر حتى تنتهي الرياح العارضة ثم يكمل المسير على الخط الأولي.

فمثلاً التعمق في شخصية العامل كالون الذي يخدم المعزين أكثر من شخصية صديقه الميت في العزاء الذي أوصاه بالوصية، وغاب عنا اسم صديقه. وقصة أم عفاف لم تكن تخدم الفكرة، وغيرها.

كذلك كان هنالك مشاهد غير متوقعة كأن يدخن فيصل في مكان العزاء وهذا كان غير مقنع، إذ إن هذا غير معهود في طقوس ومناسبات العزاء في وسط المجتمع السعودي. ثم إن المبرر في تحديد موعد لقاء ليلى في اليوم الثاني من العزاء في المستشفى لم يكن له في ضمن السياق ما يجعله مقبولاً، خصوصاً لرجل وقور خرج من مناسبة وفاة أعز أصدقائه. لربما كان القارئ يريد إتمام العمل على الوجه المستدرج، لكنه وجد صعوبة في تقدمه على الطريق الذي كان يتوقعه. وربما أيضاً أن هذا مطلب من الكاتب ليكشف عن شخصية مستهترة، لكن مسار الرواية كما توقعه المتلقي لم يكن في هدفه ذاك المسلك. أضف على ذلك أن ليلى طوراً يسميها الراوي الخارجي شهرزاد، وأخرى سندريلا، مما ولّد إرباكاً في ذهنية تعميق الشخصية لدى من يقرأ. وأطنب كثيراً في العامية على لسان ليلى حين حكت له قضية التحرش التي اتهم فيها أخوها ناجي ووضع في التوقيف، فلم يكن القارئ على علم مع زخم التنطع اللهجوي الذي في بعض ألفاظه جيد، هل المقصود بعد كل هذا أنها ستطلب مساعدته أم أنه فقط سيتم الكشف عن حال معيشية للصديقة صاحبة الغرام الفيسبوكية، وكان ملاحظاً أن العامية بتلك الكمية لم تخدم العمل، ولو كانت بالفصحى لكان أفضل قبولاً، مع كل ذلك كان وضع فيصل صامتاً يدلل على عدم تقرير مصيره، فلا يتلفظ إلا بكلمات قليلة من قبيل «يا ليلى الله يعينك.. الله يعين.. اللهم آمين» ثم بعد قصة عامية طويلة أخذت مسار لأكثر من خمس صفحات، وهذا لا يحتمل في الرواية، يرد يقول: «فتتي أحزان قلبي يا ليلى»، فلم يمارس استعراض محاولة مساعدتها، وقد يكون تدليلاً لعدم رغبته في الخوض في معترك الحياة إلا افتراضياً.

في أحيان متفرقة يكون هنالك تداخل في السرد كحالات شاعرية، فلا يتضح بسهولة من المتحدث ومن المقصود ومن الراوي، ربما يعود ذلك كون الحاكي راوياً خارجياً، حتى أن الرواية انتهت بعد مسار استثنائي بدايته مثل نهايته ورؤية خاصة، فيما كان القارئ معلقاً، فكان كل شيء على ما هو عليه، من دون وجود نتائج لصراع حقيقي ملحوظ، كانت غيوم استثنائية لم يهطل مطرها، فقط تمت مشاهدتها على شكل ومضات عابرة.

الرواية لم تتقدم كثيراً بسبب اتخاذها السرد الوصفي مساراً لها، مما حد من تقدمها تصاعدياً وفوت الفرصة على نجاح الفكرة الرئيسة ليجذب بها المتلقي الملهوف للبناء الحكائي المتنامي، لكن الملاحظ أن الدويحي كان يسجل لحظات تاريخية ويكتب للقارئ المثالي المتبصر بشكل عميق، الذي يفهم كل حركة من حركات الكاتب، الذي يبحث عن مغزى النص الذي يقرأه ويدخله دائرة موسوعته المعرفية ويبلغ بها أقصى ما يستطيع من التأويل والفهم. وأفلح الدويحي في الاستقصاء الواسع للأحداث المعاصرة إبان بداية الربيع العربي، والنضال ضد الإرهاب، والتواصل في معرفة المستجدات والعلاقات الاجتماعية عبر وسائل التواصل الحديثة. تتميز الرواية بميزتين واضحتين، أولاهما قدرة الكاتب وثقافته العالية التي مكنته في تصوير فترة من الحياة العابرة، وكذلك الغوص في الشخصيات الروائية واستظهار أعماقها عبر لغة مرهفة. والثانية اتخاذ الوصف كصيغة سردية استطاع الكاتب من خلالها تعميق بعض الأفكار، فأخرجه ذلك من الرتابة الواقعية التي تقوم على سرد تصاعدي بشكل خطي من البداية إلى النهاية.
------------------------------------------
* كاتب سعودي.
المصدر: صحيفة الحياة