مدينتي تتغير من داخلها ، تكبر وتتشكل ، ويظل سكانها حافظي الجميل ، محافظين على حالاتهم ، وما أصعب أن تغيرهم ، لينكر بعضهم بعضاً ...
يمضي تاريخها كجنازة في منتصف ليلة عاصفة ، هكذا رآها المراعي سليمان ، وقال في ذاته في حينه :
-    إنني أيضاً قد تغيرت...!
كانت عودة ليست مظفرة ، له أولها على أية حال ، وكان يحتفظ بداخله تجاهها بقيمة اجتماعية معنوية ، تدفعه ليواجه التحولات الطارئة في عالمنا ، وقد بانت له ملامحها واستوت على الجودي ، وراح يتساءل ببراءة لكنه استدرك وقال :
-من أين لي أن أعرف ؟
تذكر وكاد أن يبكي ، لو كانت تعطي مفاتيحها بسهولة ، تعاند وتتعب ... شكك كثيراً وتعذب ...جاءته بريئة تتوهج فأدهشته ، وظن أن البدايات صعبة ، لكنه لم يستغرق وقتاً طويلاً  ، فقد تعلم بعد غربته حينما دفعت به الظروف ، ووجد تفاصيلها الليلية تملأه ، ألا يدعها تذهب في أحوال متضاربة هباء ...
وقد أبصر كالنائم نفسه " أحمد سعيد صوت العرب " يدخل مرعداً تحت أزيز الرصاص ، ينهمر من شبابيك البيوت ، ويسمع جلجلة و أصواتاً تزبد وتحرض .
استسلم لها وسقطت تحولاته الفجائية ، وتلاشت وسط النساء كأنها لم تكن ... وانبثق في خاطره سؤال :
-    هل جئت فاتحاً ؟
عاد منكسراً منغرساً في القلب ينهك قواه ، وتلبسه حالة غير التي رآها ، وغير ما تهيأ له ، كان عليه أن يدافع عن حياض قضيتها ، فرفع عقيرته ، هدد وتوعد ، ودافع عنها ، وتمترس خلف باب خشبي ، يساند رداحة تولول ، ويطلق الرصاص على عواء الكلاب ، ومكان التماعات رصاص عدو مجهول ، تدفعه الرداحة السمينة جنباً إلى جنب ، وقد بهرته شجاعتها ، وأغراه تحريضها ، واستأنس لها تسوقه إليه وتوهمه به ، ونسي أصدقاء جاءوا معه ليقاتل في شراسة في خندقها ، قال مرة :
-    إنها قسوة لا مبرر لها ،
لكنه قد أدرك وفهم كل شيء ..
***
تسربل الراعي سليمان عبر المداخل الخارجي ، وقد حطت الحرب أوزارها ، وتبين الأشياء وفرزها ، يبحث عمن يحدثه ، يبادله الهم المسيطر عليه ، فقادته قدماه إلى الوادي ، وانساق يطارد جرادة بين الحقول النابتة في الطين الأخضر .لكنها غابت عنه في عنان السماء ، ولم يأت أليه أحد ...
أقعى ينتظر جوار نافذة ، وقام ليشرب من قربة الماء العتيقة في ساحة القرية ، مرت شاحنة وكأنما فتحت له أبواب السماء من جديد ، جعلته يتساءل بعد أن تبين فيها صديقه أحمد ، هل كان لمجيئه علاقة بالفتح ؟
أرجأ السؤال وتردد في طرحه ، باشره أحمد ودعاه لمرافقته ، وأغراه بما يخصه به ، وما كان يحتاجه فعلاً ، وصعد إلى الشاحنة واندس في الداخل ، لئلا يبصره أحد ، ويظن أنه يشمت به .
دخلت الشاحنة الغابة ، وأصيب الراعي سليمان بالرعشة حينما فاق ، وأنكر أنه استسلم لأحمد ، يضطهده ، ويمارس عليه الأذية ، ويمر بالشاحنة فوق جسده المسجى في أرض الغابة ..
مضت دقائق استغرقها يفكر في العودة ، أو المضي ثانية للمدينة ، لحظتها سمع أحمد يطلب إعادته ، لئلا يفتضح أمره ، وشاهد سعيداً يخرج من بين حجرين ، ويتبرأ من طلبه .
دخلت شاحنة أخرى " مقهى الغابة " وكان أحمد يصر على إعادة الراعي سليمان ، ولا زال يرفض سعيد الإصرار ، فغضب الراعي سليمان وأدار وجهه وشاهد رجلين أحدهما قصير سمين ، وتأكد أن " مقهى الغابة " ملتقى الأصحاب .. وخرج .
انطلق إلى قمة الجبل ، وتبع ولداً وبنتاً، يرعيان قطيع غنم في سفح الجبل ،وغير بعيدين عن المقهى ، وكاد يستنجد بهما ، ليدلانه على طريق المدينة .لكنه سمع حواراً بينهما ، أنصت له قبل أن يسألهما ، وظلا خلف القطيع لا يعيرانه اهتماماً ، وربما لم يشاهداه ، رمى الشاب حجراً خلف عنز في مقدمة القطيع ، فنهرته البنت ، وتودد لأيها ... فهم الراعي سليمان أن البنت خطبت لغير صاحبها ، وظهر له أن بينهما وداً ظاهراً . ولكنها مقتنعة بخطيبها وصريحة وذكية وودودة مع رفيقتها وصاحبها...
تركهما وشأنهما خلف القطيع ، وعاد إلى " مقهى الغابة " فوجد ابن عمه ينتظره ، وكان قد وصل في الشاحنة التالية لخروجه ، وكانت المفاجأة أ، أمه تطلب ابن عمه دوبان من تليفون المقهى ، وتدعوه أن يعود إلى القرية ، وكان لا يعرف أين يذهب ؟
سأل أمه إذا كان حده مريضاً ، ويلزم عودة ابن عمه دوبان ، فأنكرت واكتفت بإبلاغه ضرورة عودة دوبان ، استسلم لرأيها وعاد ابن عمه إلى القرية ، واختل الراعي سليمان قيادة صحبه في الشاحنة ، ودخل المدينة واهناً ترتجف مفاصله ، يغطيها بثياب سوداء أكثر اهتراء .

***

وجد الراعي سليمان صديقيه حمداً وحمدي ، وقد سرت أخباراً رحلته إلى الغابة كالنار في الهشيم ، واستذوقها صديقه حمد ، وبدأ يفسرها بطريقته ، ويضيف عليها ما يناسب ...
امتعض الراعي سليمان وفكر في وسيلة توقفه عند حده ، لكنه عجز وبقي له حل واحد وهو استخدام القوة ، لئلا تزداد الثرثرة ولعله يسكت من إعلان فضائحه ، لكنه كابر وعاند فأهمل ،تشاغل بفتح أدراج مكتب ، يخرج منه ملفات ودبابيس ، وكان حمد لا زال يثرثر ، قاطعة أكثر من مرة ليغير مجرى الحديث ، لكنه عاند ، وكان الراعي سليمان يغتقد أنه طيب القلب ، لا يقصد الإساءة إليه ، ويصر أن يواصل ويكشف أمام حمدي مالا يود أن يعرفه عنه ، وبحركة عصبية لا إرادية قذف الراعي سليمان علبة دبابيس ، انتشرت فوق مكتب حمد ، ونهره بعنف ليسكت ، رفع حمدي رأسه وكان يكتب ويسمع ، شتم حمد الراعي سليمان ببذاءة ، وضربه الراعي سليمان بمسطرة خشبية ، وسكت وساد الصمت .
صادف أن دخل حامي المدينة ، وشاهد ما حدث ، فسرى الرعب واعترى الراعي سليمان الخجل ، وضحك حامي المدينة بسخرية مبطنة ، خرجت من بين أسنانه ، ودلت على امتعاضه مما رأى ،خشية أن تتحول مدينته إلى مرتع وكهف للأوغاد ... هكذا اعتقد الراعي سليمان ، فاعتذر بضعف وخوف ، وأبدى من الأسباب ما كان يعتقد  

أنها مقنعة ببراءته ، أيده حمدي ، وأكد ما ذهب إليه فتظاهر حمد بعد أن لاحظ حامي المدينة أنه طعن في صميم كرامته ، كان حامي المدينة لا يزال يضحك ويتهكم ، فجاءه صوت من خارج المكتب يناديه ، فخرج وظن الراعي سليمان أن المشكلة انتهت عند هذا الحد وأن حامي المدينة سينسى ويصفح عنه ، وقد شعر بفداحة ما عمل ، فقام على الفور وجمع الدبابيس المتناثرة ، وقبّل رأس حمد واعتذر له.
فجأة !أقبل حامي المدينة وقد تغيرت ملامحه ، ودخل وراءه عجوز أصلع ، عرف أن اسمه رامي ، وأمره حامي المدينة بصوت عال ومنفعل :
-تسمع أنت مسؤول عما يحدث من فوضى وتجاوزات .
قبض الراعي سليمان على قلبه وصمت ، وقال حامي المدينة لرامي الأصلع :
-    أريدك أن تعطيني خبرة عمرك ومكاسب حياة لندن .
تحول إلى الراعي سليمان وطلب منه بحزم أن يجمع أشياءه ويخرج ، حاول أن يعتذر فتلعثم ، ووضع حامي المدينة إصبعه على فمه وأنفه ، وفهم الراغي سليمان بأنه لم يعد له هنا مكان ، حاول حمدي أن يخفف الوضع ، فشرح وأدان حمداً ، وكان قد بهت لسرعة القرار وتنفيذه في صديقه ، التفت الراعي سليمان وقال في محاولة أخيره لا تعني  شيئاً محدداً :
-    من الخسران ؟
واجه الراعي سليمان شاباً اعتلى قمة الأزمة ، وامتلأت عيناه حقداً وكراهية ، والتمعت غدراً وغطرسة خلف نظارته الطبية ، وكان قد وصل فوراً ووقف خلف طاولة حمد قائلاً :
-    اسمع الكلام وأتفضل " برّا"
انخلس حمدي وخرج ، ومرت بذهن الراعي سليمان عواصف شتى لملم أوراقه وخرج ، يحسب أن فارساً يهزم في مدينة لن يعود إليها ، مضى يستند على جدران الممر عبر المخرج الداخلي ، يعصف به الدوار ، ويكاد يهز كيانه ويسقطه ، لاحظ شابين في مقتبل العمر يعبران الممر معه إلى الخارج ، تفحّصاه برثاء ، وحينما تجاوزاه ، تنامى إليه همسهما ، وتبين له أن موجة رياح مرت في المدينة ، تقتلع منها النباتات الهشة ، وكان وضعه مختلفاً فهو ليس عاشقاً يناضل من أجل حبيبته ، وخرج هائما على وجهه.
***
اشتدت سطوة البرد وصارت الرياح عاتية تكاد تقتلع كل شيء في طريقها وكان ربد من وسيلة للتدفئة ، فشرع الراعي سليمان وابن عمه دوبان يعمدان إلى جمع بقايا أخشاب العمائر الكبيرة ، وكان دوبان قد دله على عمارة مهجورة ، تحتل موقعاً استرتيجياً في المدينة ، وتشكل منظراً جميلاً وسط مزرعة .
جاءهم عبد الله صالح وحرّضاه على جمع الأخشاب معهما ، ووجدوا أثناء جمعهم الأخشاب " فراريج " صغيرة تساقطت من أحد شبابيك العمارة ، مندسة فزعة حينما رأتهم ، وظلت أمهم الدجاجة الكبيرة تصيح وتضرب بأجنحتها لتحمي صغارها ...

خرجوا بعيداً عنها ، يجمعون الخشب من جديد ، وجاءت زينة بنت زارعة وطلبوا منها جمع الحطب معهم ، ونقله إلى داخل العمارة  ، فسارعت ملبيّة رغبة دوبان متبرعة مستجيبة برغبة مجردة ونقية ، ولفعل جميل ، وصارت تحادث الراعي سليمان في جيئتها
وذهابها ، وقد صار يحرق الخشب ، ويدقيء المكان الأرضي من العمارة ، ويساعد عبد الله صالح ويغلي " الشاهي " .
كان دوبان قد خرج ، وعاد بعد ساعة وأحضر معه العائلة كاملة فاستنكر الراعي سليمان فعلته ، وشاهد كثرة النساء بين العائلة على الرجال ، فقال دوبان صراحة :
-    اليوم عيد ...
لاحظ الراعي سليمان أن العائلة ترتدي ملابس المناسبات المزركشة الجميلة كاملة ، ولاحظ أنهم أحضروا معهم السمن البلدي والتمر والعسل والحلوى واللحم ، وقد اجتمعوا في دائرة يقطعون اللحم النيء  ويسرفون في الضحك على بعضهم بسعادة بالغة ، وظل يستمع إليهم ويغمس يديه في الأكل أحياناً .
ران صمت عجيب ، فرفع الراعي سليمان رأسه ، ورأى مطلقة دوبان الجميلة تدخل بجرأة ، وتقبل رؤوس العجائز ، وتقبل لمطلقها دوبان مندفعة بحرارة ، خجل وأفسد بهجتها ، إذ ظل منكباً يقطع اللحم النيء .
هنأتهم بالعيد ، وتساءل الراعي سليمان في داخله وكان خارج الدائرة ، ماذا عساها جاءت لتفعل ، فجاءت وصافحته بحرارة وهنأته بالعيد ، شدته نوعية ملابسها ، وسرح يتفحصها  ، وأخرجته منها دعوة قدمتها لهم لزيارة بيت أهلها ، اعتذر الراعي سليمان وقال إن العائلة كبيرة ويصعب نقلها ، سكتت ، ولم تصر على تلبية الدعوة  ، ظن الراعي سليمان أن دعوتها تبريراً لمجيئها ، وظل مطلقها دوبان يقطع اللحم النيء ويتحدث إلى عجائز العائلة ، التفت الراعي سليمان إلى مطلقة دوبان وسألها عن أحوالها ودراستها ، وأخبرها أنه قد سمع أنها عادت للدراسة ، وكانا يجلسان خارج دائرة العائلة ، عزف سؤاله على وترها الحساس ، فتحدث بإسهاب عن الكفاءة والجبر والهندسة ، تماسك وكان لا يعي مما تقوله شيئاً ، ظل يسترق .
النظر إلى ملابسها الجميلة ، وفجأة دخل صحن كبير من باب العمارة يحمله عامل أجنبي ، فقفزت وسط الدائرة وأشارت إليه ووضع الصحن ، وقد امتلأ بأصناف الطعام ، ودعت العائلة لتأكل ... فشعر الراعي سليمان بمأزق ، فخرج  لينفرد بنفسه في يوم العيد ،
وقادته قدماه إلى سرحان ،استفبله ورحب به وصار ينافقه كالعادة وقد توطدت بينهما علاقات قوية ، أخرج سرحان