وقفت مليحة بنت السادة في نهاية ساقية ، تشير له بعصا ، قبضت عليها بيدها اليمنى تجاه الماء ، في صوتها شيء من ثقة ، ممزوجة بادعاء عميق ورثته عن أسلافها الأموات قائلة :
اشرب .. اشرب لا تخف .
اندفع رحيم ( المعتمد ) مدير التعليم كما ظل الناس يدعونه ، ويتفقون على تسميته به ، نحو ساقية ماء ، ينزفها ثوران من قاع بئر طيلة نهار . تثاءبت فيه أدواته ، وعوت بكرات الدلو ، تروى الأرض العطشى ، انكب على بطنه ، وضع وجهه على صفحة ماء ، ينساب إلى فلجان ، ويتحول إلى قصبات ، نبتت فيها عيدان الذرة اليمانية البيضاء ، وتقف أم وأطفال صغار في نهايتها ، يستنزفهم الخوف ، كلما ظهر هذا المكتنز الجسم ، بإشارات من يديه ، دون أن يحزم أحد ، أنه قد سمع تمتمات الرجل الغريب ، توحي بكلمة مما يريد ، وظل يغمس وجهه في الماء ، يشرب دون أن يرتوي .. وبصوت ليس فيه حياد ، فجأة (!) نهرته مليحة بنت السادة :
خلاص ... يكفي .. يكفي .
رفع ( أبو عابد ) – كما شاع اسمه بين الناس – رأسه للوراء . كف عن وضع وجهه في ساقية الماء . مضى في الطريق التي ظهر منها ، ليغيب بين أشجار الطلح ، في الناحية الأخرى ، حيث غار النسوة يقيلن فيه ، بعد فراغهن من بيع حمولتهن من الحطب ، والبرسيم والدواجن والدجائن ، وطفقن يحملن في إيابهن فرحة يوم السبت ، من التمر والحناء وحوائج السوق .
لحظتها انفلت عقال مليحة . تروي لنساء عقد الخوف ألسنتهن وخطواتهن . في نهاية نهار مليء بالتعب والشقاء ، وحينها رفع فتى رأسه في وجه مليحة ، يستقرئ نافذة للخوف ، فقالت له بثقة :
مهر أمك ثقيل .. (؟!)
وخطت وجه الأرض بعصا ، تسوق الدواب بها ، وتذرع بها بلاد الناس وأملاكهم ، كلما طرأ شجار بينهم ، استخرجت كتب أبيها وأخيها ، وفي حوكتها البيضاء باقة أعشاب منوعة ، وتحت مسفعها الجرجيك روائح عطرية ، جمعتها لتعدل بها رأسها ، ودون أن يعرف أحد ، سبب خطوطها فوق وجه الأرض ، وقبل أن يقف ( أبو عابد ) عندها في اليوم التالي طويلا ، بعينين كعيني ذئب مخاتل لآب بين الجبال ، آت في أثر فريسة ، يتبعها من نهاية الخط الترابي .
وقبل أن يتراجع فجأة (!) خطوات ثلاث ، دون أن يقفز فوق الخطوط التي وشمت بها وجه الأرض ، ويعود من حيث أتى ، لمكان يمضي غرباء أوقاتهم فيه ، في مثل هذا الوقت ، يطلوا على حياة الناس في حقولهم ، ويردد طفل بهزء ( تع يا ولك تنضربك شرنقة ) لينتزع ضحكات التلاميذ من سطوة ، في حقيبة سوداء ، بها أمصال الحصبة والجدري ، يغرسها رجل نحيل في الجلود الطرية ، فيكاد الخلق يفقدون إيمانهم ، بما ورثته مليحة بنت السادة من طب ، يقارن بما لدى رجل نحيل يشاهدونه ، يأتي مع الغرباء من الجبل .
أما فواحدا منهم ، لم تفلح خطوط مليحة بنت السادة في ثنيه ، فقد قالت للأم المشدودة بحدسها :
قولي لهم . لو كانت حبوب ( أبو سهيل ) وشرنقاته فيها خير لنطقت ابنتك ...
وكأنما تحاول امتصاص روح إشاعة ، بعد أن تناقل الخلق ، أسرار أولئك الغرباء ، الذين أتى من بينهم هذا الثور الهائج ، وحده كسر العزلة ، وجاء إلى الناس في حقولهم ، وأضمرت في داخلها ، أن تضع له حدا ، ولتلك الإشاعات ، فهيئته لا تدل على أنه شحاذ ، وليس يصنف من أولئك الذين ربما يفعلها أحدهم ، من أجل عيون فتاة أحبها ، فهام على وجهه بين القرى ، ليجد من يعينه ، فمن تراه الآن أمامها (هملا) ، لا يعتمر كمرا به سلاحه كالرجال ، أدركت مليحة ببصيرة نافذة ، أن قضيتها الحقيقية ، في يد الآخر النحيل ، الذي سلب الرجال عقولهم وإيمانهم . واستعاضوا عن أعشابها وطلبها ، الذي تطببوا به ، هم وأطفالهم ونساؤهم ، بما تحمله حقيبته السوداء ، ويرددون ببلاهة ، الكلمات التي يسمعونها في الغار المشؤوم ، حتى صاروا أسرى لهذا اللجين ..
عاد الرجال في الليلة الفائتة لأطفالهم ، بنصائح وأحلام قمرية ، تأخذهم في فيافي ، من الوهم والتسلية البرئية ، لم يأت أحد بشيء ذي بال ، هم يثرثرون بتلك الكلمات الغريبة ، لينسجموا مع صوت : ( سافر يا حبيبي وارجع .. الله أعطاك الهيبة .. يأبه .. الله أعطاك الهيبة ) ، ويأتي الصوت طازجا من صندوق خشبي ، وضعه صانع القرية في زاوية الكير ، ومدد أسلاكه فوق زاوية المسجد ، ومددوا هم أرجلهم المتعبة ، بقرب النار متكئين على الجدران العارية ، ينتظرون سن فؤوسهم ، ومحاشهم وأدوات الحطب ، ويمضغون حكايات لأولئك الذين ابتلعتهم المدينة ، وهؤلاء الذين يأتون من ديار بعيدة ، يحضرون معهم غرائب الأشياء ، ويلتم الأطفال حولهم ، كأنهم آتون من كوكب آخر ، فيعمد الكبار إلى طردهم ، لئلا يكتشفوا سوءاتهم ، فتبدوا لهم غير تلك الوجوه المألوفة .
وحدهم رعاة الغنم يغشون أي مكان ، يتيسر لقطيعهم أن يقودهم له ، فلا بأس أن يرعى القطيع في مكان حول الغار ، الذي صار مأوى أثيرا للغرباء ، لعلهم يحظون بشيء من بقيا سكر أو سجائر ، ومما قد تركه الغرباء ، في الغار القصي من الجبل ، زاد لهم في غياب التين الشوكي ، الوادي ، في نهاية كل نهار .
عادت والشمس تماري الغروب ، ووشمها مسكون على الخط الترابي ، كشفت مليحة ضياع الغلة ، وافتضاح سر غياب الرجال ، ولقاءهم الغرباء في أقصى الجبل ، فقالت لأم كان مهرها نقود حصاد موسم كامل :
ـ الليلة يجيئك علم ..!
فجأة (!) ظهر (أبو عابد ) ، والشمس تكاد تغيب هناك خلف الجبال ، والناس يودعون نهارهم المليء بالشقاء ، وحدها مليحة بنت السادة ، وكأنها كانت تنتظر بفارغ الصبر ، وبحزم ظهر في نبرات صوتها ، عندما رأته يهم قفز وشمها ، وخطوطها فوق وجه الخط الترابي ، قالت آمرة :
ـ ارجع .. ارجع وراءك ..
وكأنما ذهبت كلماتها في واد سحيق ، رفعت العصا في وجهه ، تكاد تضعها في عينيه لئلا يحاول مد خطواته نحوها ، ظل مشدوها يرقب الخط بعينين زائغتين ، وبصوت أكثر حدة ، صاحت به ، وقد نفذ صبرها :
ـ يا مجنون ما تخاف الموت .. ارجع وراك ...
ويكاد يندفع فوق الخطوط التي وضعتها ، يرتفع قفصه الصدري ويهبط ، وتنقطع أنفاسه ، فصيحة يطلقها كالعواء فارا ، يتعثر ويسقط قبل أن يغيب بين أشجار الطلح ...
أودعت مليحة ليلتها الفائتة ، متمددة فوق ( قعادتها ) الخشبية بيأس ضئيل ، وقد عزمت على تنفيذ ما نوت فعله ، حينما تذكرت الذين تنكروا لخدماتها ، لكنها أبدا لم تكن لتفقد تفاؤلها العتيد ، بأن الشمس غدا ستشرق ، وإنها ستستقبلهم فرادى وجماعات ، كما يفعلون في كل مرة ، حينما يحتاجون فيها إلى خدماتها ..
صادف أن وصفت الأم وصفة ، تعطيها لابنتها التي لم تنطق بعد ، قائلة خذي قرصا من قمح العثري ، اطبخيه قبل طحنه وعجينه ، ثم اطرحيه في صاج ، ليس لناره لهب ، وخذيه في حوكتك النيلية البيضاء ، واذهبي به إلى سوق الحطب ، والدواب ، والحبوب ، والجلود ، والسمن ، والبرسيم .. إياك وأبواب الدكاكين ، كأنك شحاذة في السوق يوم السبت ..
أخذ القطيع يعبر الخط الترابي ، وفتى خط الشعر خيطا رفيعا ، فوق شفته العليا ، وقد ملأ بطنه بثمار التين الشوكي والعنب ، وخبأ في جيوبه بقايا سجائر ومعلبات ، وجدها والفتاة التي كان الناس في حقولهم ، يطربون لصوتها في كل عصر ، حينما تكون في طريق عودتها قبل الغروب ، في أثر قطيعها من المراعي ، وتغني بلثغة غير مفهومة ، قبل أن يستولي هؤلاء الغرباء ، على المكان المرتفع فوق الجبل . وتغني ( البارحة الرادو الملعون غنى فريد .. حتى أم كلثوم غنت هي وليلى مراد ..) . وقد منعها شقيقها الأصغر من الغناء ، وبكى حينما نهرته أمها ، لئلا يغضب شقيقته ، بسبب أولئك الغرباء ، وأردفت قائلة له :
ـ الناس الذي ( بذونا ) في الوادي والدار ما فادونا .. (!!)
ويتراقص سرب القطيع ، بين الفجان وأشجار الطلح ، وقد أصابه شيء من التخمة ، تنقل من جبل إلى آخر ، ومن واد إلى واد ، في أثره الفتى وفتاة قبلهما مهام أخرى ، أشد شقاء وتعبا ، قبل أن يأوي كل منهما إلى فراشه . وفي مدخل من بين الطلح ، ينحف القطيع من فوق أحد الخلجان ، وقد حفرتها مياه الأمطار وعمقتها ، يحاول الفتى استرداد قطيعه ، قافزا فوق أخاديد الخليجان ، يتحرك شيء تحته في المجرى ، يظنه في البدء واحدة من قطيعه ، قبل أن يتبين الشيء الممدود في مجرى الخليج ، رجل مقيد بسلاسل في قدميه ، مما جعله يطلق صرخته في الهواء محذرا الفتاة ، - المجنون .. الجنون ..! قبل أن تطأ قدماها الأرض
تأكد الفتى مما رأى بعينيه ، رجل ممدود في الخليج ، سلسلت قدماه المقروحتان ، كجثة ثور مذبوح ، له فم مفتوح بابتسامة باهتة ، ويصف للفتاة التي مشت وراءه في فرح ، طيلة نهار مشبوب بالخوف في نهايته ، وقد رأت الرجل الممدود في بطن الخليج ، فصاحت متسائلة :
ـ أرأيت السلاسل في رجليه .. (؟)
نظر الفتى في وجهها بدهشة ، وقد أبصر الخوف مرتسما على ملامحها ، أجابها بهدوء :
ـ ربما هرب من بيت الفقيه ، يقولون أنهم يهربون ، قبل أن يعيدهم إلى سلاسلهم ..
وحبس الفتى في داخله بعض كلام وخوف ، وكاد أن يبلغ فتاته أن مجنونا ، قالوا عنه (أبو عابد ) قد هرب ، والمصيبة أنه مجنون خطير .. وأشيع في ذات الوقت ، أن فقيه المجانين ، أطلقهم في ليلة فائتة ، فهاموا على وجوههم بين الأودية والبيوت . وعمد الفتى إلى أهله ، لتأويل ما رآه بعد أن فرغ من إيواء قطيعه ، يصف لهم والجيران ، منظر الرجل الممدود في الخليج ..
تذكر الفتى بقايا السجائر التي حملها معه ، خفية في النهار ، لينتهز خروج والده لصلاة العشاء ، وليغافل أمه ، وقد فرغ من تناول (رشاقته ) ، من خبز وسليق ، ويسرق علبة كبريت ، يخرج بها إلى الغار المجاور لبيتهم : يدخن واحدة من تلك اللفافات ، ثم يذهب إلى بيت السليمان ، ليسهر ويلعب مع أنداده ، الذين تعلموا في المدارس كلمات غربية ، وليخبرهم بما رآه ، والفتاة في النهار ، حينما يستقر به المكان ، استخرج واحدة من تلك اللفافات ، ووضعها في فمه ، يهم أن يشغل بها عود ثقاب ، فجأة (!) جاءه صوت آمر ، آت من جوف الظلام :
عطني سيجارة..!
أصوات سلاسل حديدية ، قيدت بها ساقي رجل ضخم الجثة ، هو ذاته تكاد يده الآن ، تنتزع سيجارة معلقة في فم مفتوح ، فيصرخ الفتى بصوت مفجوع ، وتنتابه حالة هستيرية تستولي عليه حتى صباح السبت ، في حينها نامت مليحة ليلتها بهدوء ، وقد أدركت بحدسها أنها فاقت ما رمت إليه ، وشاع في القرية تأويل ما حدث