بحث في الموقع


يمتاز الكاتب السعودي «أحمد الدويحي» بنهجه الواقعي الذي يلتزمه في رسم العالم المحيط به وشخصياته، كما يمتاز بقدرته على رسم عالمه الواقعي مركزاً على سماته المميزة، كذلك يعنى كثيراً بتوضيح الملامح البارزة للشخصية الإنسانية التي يلتقطها من الوسط الاجتماعي، من منطلق أن القصة تحتاج الى صورة أمينة للحياة.

تؤكد الكاتبة «ناتالي ساروت» في كتابها «عصر الارتياب» (أن القاص لم يعد مطلوباً منه أن يثير فضولنا بعقدة روائية أخاذة، أو أن ينصب أشخاصاً أحياء يشبهون الحقيقة، أو أن يصف وصفاً لامعاً دقيقاًَ وسطاً مجتمعاً معيناً، أو أن يحلل، القلب البشري تحليلاً مبتكراً). غير أن الاتجاهات الحديثة للقصة تباينت، إذ يعني بعض القصاصين بالواقع السيكولوجي، بينما يذهب آخرون ومنهم الكاتب الفرنسي «آن روبيه» الى أن التركيز على الواقع وإهمال العالم الخارجي يهدد بذوبان هذا العالم، والواقع أن هناك طريقتين للقصاص:

1- الطريقة الباطنية.
2- الطريقة الظاهرية.

فإما أن يكون الإنسان بمعزل عن العالم، وإما أن يكون العالم بمعزل عن الإنسان، وثمة نهج ثالث يجمع بين الباطن والظاهر، والموضوعي والذاتي في آن واحد.
ويرى الكاتب جان بول سارتر أن هذا الاختلاط غير ممكن، إذ لا نستطيع أن نكون في الداخل والخارج معاً.
والكاتب أحمد الدويحي في مجموعته القصصية «قالت فجرها» يلجأ الى أسلوب قصصي يشبه حركة عين آلة التصوير السينمائية، فهو لا يلتقط الصور والمشاهد الخارجية بعين فاحصة ودقيقة، إذ تكون هذه المشاهد أخيراً لوحة متكاملة ذات فضاء نفسي متناغم يحدث التأثير المطلوب في النفس، من خلال توحد الشخصية بالبيئة وعدم إغفال الوجدان.
ففي القصة الأولى وعنوانها «قالت فجرها» يرسم الكاتب المشهد الأول بمراهقين يتحلقون حول النار التي يوقدونها في عزبة «عم حدقان» بعيداً عن عالم الكبار..
وفي المشهد الثاني يصور العجوز «فاطمة بنت عيشماء» التي تعيش وحدها، فيصف مظهرها الخارجي: مشيتها وظهرها المتقوس وعالمها الذاتي فهي تقود بقرتها الى القرية، وتعود حاملة طعامها المتواضع فتعد خبزها في الضحى، وتزوده مع حبات من العنب يقاسمها إياها الصغار، في هجوم لصوصي وهي غافلة، إنها صديقة الأولاد من الصبيان والبنات، وقلبها ينضح بالطيبة رغماً عن مظهرها الشرس، تقدم لهم العيدية في المناسبات وتعرف أسرارهم.. وحين تزوجت «زهرة» حبيبة بطل القصة، وخرجت من قلب الوادي الى زوج لم يكن حبيبها.. كانت فاطمة العجوز تدرك مدى الحزن في قلب ذلك المراهق الحبيب، فقادته الى عشتها الخربة وأوقدت النار له.. كانت نارها تضيء قلب الوادي حيث تخرج زهرة مكللة بالنور.. نلاحظ أن الكاتب يرسم لوحة تتوحد من خلالها: الشخصيات مع البيئة، لتشكل صورة واقعية، لكنها ليست نقلاً فوتوغرافياً جامداً للوسط. فهي مضمخة بالمشاعر الإنسانية حيث مغامرات الصغار، وشخصية العجوز التي تحمل صورة الأجداد، وملامح الفقر والدفء الإنساني الذي يشع في اللوحة، ويجعل القاريء يتماهى مع واقعها الخاص.. ويعيش مع شخصياتها، وبهذا يتجاوز الكاتب «أحمد الدويحي» التمثيل الأمين للمشهد الخارجي معبراً عن حقائق داخلية، بنظرة محددة الى الإنسان والعالم بكليتهما وتوحدهما.
من هذا المنطلق لا يحتفي الكاتب «الدويحي» بالتماس نهاية بارزة لقصصه إلا فيما ندر، فالقصة لديه جزء من حياة مستمرة لا نهاية لها، وانفتاح على فعل إنساني لا يتوقف.
ففي قصة عنوانها «الرسالة» يروي بطلها بأسلوب البوح والاعتراف ذكرياته في عالم «الشط ومحالة» حيث يعيش الناس في كنف الشيخ ناصر سعيد الشط الذي يحكم بين المتخاصمين، ويملي على بطل الرواية أحكامه في آخر الليل. كان الشيخ ناصر قلقاً لقدوم غريب الى الشط. جاء ومعه وثائق تثبت أنه المالك والوريث لأجداده من بني هلال الذين غادروا الشط منذ زمن.. فهز قدومه رجال الشط الذين تعلقوا بالأرض وعز عليهم أن يشاركهم ذلك الوافد أرضهم، بما في ذلك والد بطل القصة وراويها.. ويحار الشيخ بين حرصه على تطبيق العدالة وتعلقه كالكبار بالأرض التي عاش فيها.. لكنه في النهاية يعبر عن انتصار حكمته بدمعة يسقطها على الرسالة أمام دهشة الشابين، بطل القصة وزميله حامد ابن الشيخ ناصر الذي يدرس في أمريكا.. ويفهم القارئ أن الشيخ انقاد للحق، ولو كان على حساب أغلى ما يملك أو ما يملكه جيله.. وهو الأرض..
قد لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إن الكاتب أحمد الدويحي بارع في رسم البيئة المكانية والزمانية التي تلقي بظلالها على الشخصيات الإنسانية إذ يبدون في قصصه ممثلين للبيئة في ملابسهم وحواراتهم وتصرفاتهم، فهناك نكهة خاصة للشخصية الإنسانية في قصصه، يحسن اختيار مايخدم غرضه من سماتها، مثلما يجيد اختيار الحوادث التي ترسخ عالم القصة الخارجي والنفسي، حتى إن صور الشخصيات تظل عالقة في الذهن زمناً لا يمحوها التقادم، فقدزينها الكاتب بالحياة والظلال.
وفي ذلك على سبيل المثال صورة الأب في قصة عنوانها: «قصص»، ذلك الأب العصبي القاسي الذي يقرن ولده بالثور، وهو يستخرج ماء البئر ليسقي زرعه، فإذا غضب أطعم جلد ولده للسوط الذي صنعه من جلد البقر، كما لا يمكن أن تنسى صورة «مليحة» العجوز التي تدواي الناس بالأعشاب، وقد أخرجها عن طورها وفود «أبو سهيل» الذي يزاحمها ويقطع لقمة عيشها باستخدامه الأساليب الحديثة في المداواة كالإبر والعقاقير..
وفي قصة عنوانها «حارس الثأر» نماذج حية ومؤثرة من الشخصيات الإنسانية المنتزعة من البيئة مثل «رفعة البابلية» التي تتزين بالوشم وترقص للفرسان «تتلوى وتعصر جسدها المنتشي بفعل سائل طعمه حار، دماؤها تتراقص مجنونة في أحشاء الكون.. » وصورة «حامي الربع» الذي يطوح بعصاه تجاه «رفعه البابلية» و «فرسان الربع» من عشيرة «أولاد علي» الذين يمارسون الثأر مثلما يمارسون أي عمل عادي «يصطف الرجال يداً بيد، وينداح حلم في ذاكرة الفتى كإعصار مجنون يلوح في ثنايا الثأر وشماً وحلماً وميعاداً».
ويعزز الكاتب «أحمد الدويحي» الصورة الواقعية بحوارات يستخدم فيها للغة المحكية: (احذر!! الشيبه «أي الكهل» لا يطيح..) أو يدعمها بسرد مقاطع شعرية من الشعر الشعبي المتداول، الذي يظهر التشفي والاستعلاء بالثأر:

يا ولد عيدكم تنتين
واحد في بطن واحده
أمكم تبكي بدمع العين
وتقل ما هي بجاحده
هنا يتشرب النثر الشعر، كما يتشرب الشعر من النثر.

لم تعد القصة عند الكاتب «الدويحي» وصفاً واقعياً لمصير فردي، بل أصبحت عالماً شعرياً، ومشهداً لا حدود له، وأصبح الابداع الكلامي لديه والمجازي يحول بحرية تامة في جميع الآفاق. وأصبحت الحكاية ذريعة، والتعبير الانشائي هو الكل في الكل. ولعل أصدق مثال لذلك قصة عنوانها: « فاصل ونايان» إذ يحتفي الكاتب بوصف لوحتين متواليتين يفصل بينهما بحرف (ن) التي تعبر عن المكنون الداخلي. وبين الفاصلين تتساور شخصيتان.
الأول يستنفد طاقاته في ممارسة دوره كعريف للحفلة.. والثاني سليمان يعبر عن ذاته باستخدام الميكروفون ليعزف على نايه فيتوحد معه بانسجام، لكن ثرثرة النظارة وإهمالهم الاصغاء إليه تثيره..
وهكذا تبدو اللوحة لدى كاتب القصة صورة للحياة التي هي أشبه بالحفلة، يحتفي كل منا بتقديم ذاته للناس، ويسوغ سلوكه، غير أن النظارة لا هون عنا بمشكلاتهم وعبثهم، وهم لا يعيروننا اهتماماً إلا حين ننسحب من الحياة، لنجتر خيباتنا وفجائعنا، أو نودع خشبة المسرح.
«ابتزنا هدوء سليمان، كأنه يولد فينا للتو حالة إجلال، وغشانا حزن سرمدي..»

إحالة :
ــ قالت فجرها.. مجموعة قصصية.. للكاتب: أحمد الدويحي.. منشورات نادي القصة السعودي في (70) صفحة.