بحث في الموقع

د. عالي القرشي

ويستثمر بعض كتاب الرواية في مشهدنا السردي السفر؛ ليحدثوا به عوالم وفضاءات لحركة نصوصهم، فأحدثوا السفر الذي يظهر رحلات متخيلة إلى عالم متخيل، يجعلونه مثاراً لرؤى وأفكار وحيوات وعلاقات تنسج حركة صنيعهم الروائي، الذي يقرأون من خلاله وجوهاً من حركة الحياة، ويظهرون تصورات لنمط مختلف آخر من مواجهة الإنسان مع العجز، والظلم، والاستبداد؛

وهذا مما يكشف عن التصاق علاقة السرد بالسفر، فالفعل التخيلي الذي يحدثه السرد يرافق حركة السارد من مكان إلى مكان، لتظهر الكتابة بعد ذلك بسردها السفري، الذي يصنع العلاقات الجديدة، والانتقالات الكتابية من فضاء إلى فضاء.
ويتجلى في هذه الكتابة فعل انصهارها مع عاملها الذي كونته وشكلته، فتصبح الحركة، والتنقلات، والعوالم، والعلاقات من تهيئتها، وتصبح مداخلات السرد تحقيقاً وكشفاً لهذا العالم الجديد، ويضحى الكتاب الذين يتخذون هذا اللون من السفر السردي معولين على قراءة إنتاجية تعمل على الحركة مع علاقات السرد في هذا العالم الجديد مع عالمها الواقعي، والبحث عن علاقة تأويلية لهذا الصنيع، بعد أن أحدثت له هذه الكتابة قناعة أن هذا التشكيل ليس محاكاة لوقائع متشابهة، يصنعها سفر الحياة المألوف، وإنما هي نتاج لسفر الفكر والمخيلة.
ومن هنا اختلاف هذا السفر السردي إلى هذه العوالم، عن ذلك السفر السردي الذي لا يهيئ إلا عوالم مشابهة لما نألف في نمط الحياة.
ومن روائيينا الذين عاقروا هذا المجال باقتدار علي الدميني، رجاء عالم، مها الفيصل، أحمد الدويحي، فعلي الدميني أحدث في روايته (الغيمة الرصاصية) عالماً متشكلاً من حركة السفر السردي، يحدث السفر، وتسافر الكتابة في أعماق السفر، وتتساءل عن الغاية، وأحوال التكوين، وتعايش صراعات العلاقات النصية، وصراعات العلاقات المتكونة في العالم الجديد، يسافر (سهل الجبلي) مع سعود الهمداني، ليعرف أحواله، وامكانية تسديده لقرض البنك، فإذا بنا في عالم متعدد الأطراف، متباين الشخوص، له تكوين تاريخي مختلف، ويعايش بدخول الكتابة وشخوصها نمطاً جديداً من الحياة، ولعل تعبير (ابن عيدان) شيخ هذا الوادي عن طريقة الكتابة في الرواية يكشف عن علاقة بين المكتوب والماثل في الوادي، حيث إن الكتابة لم تجعل السرد حكاية لمشاهدات فقط؛ بل إنها حركة وإحداث لعلاقات جديدة في هذا العالم الذي سافر اليه فضاء النص وشكله، يكتب الأحداث، ويعين الأبطال، ويزيح بعضهم، ويخضعهم للمساءلات كما تخضع الكتابة أيضاً لها، ويزج بأنماط الحياة المدنية في الوادي من تعليم، ومدرسة، ومقهى، وكهرباء.. فهل هذا الصنيع الذي يزج بالمساءلة ويزج بالحياة الجديدة في الوادي محاولة لضخ تقبل الحياة المدنية وشروطها من ديمقراطية، وتعددية في الفضاء الاجتماعي الذي تقرأ فيه الرواية؟ بعد ان مارست ذلك في الفضاء البكر الذي كونته؟
وهل ذلك يبتدئ من مناكفة التسلط الكتابي، واستحضار القلق، والتعبير عن الرؤية في المسار الذي يرسمه الكاتب لشخوصه، فيظهر النص رسماً لمسار ديمقراطي يبتدئ بمناوشة تسلط الكتابة، والرأي الآحادي في الفعل الكتابي والثقافي؟
يتحدث (ابن عيدان) عن الوادي فيقول: "نأيت وأخي بسلالتنا عن دنس الحرب العمياء التي أشعلها بنو العمومة "بنو الماء وبنو الهواء" واستوطنا هذا الوادي من سلالة رجل واحد، وامرأة واحدة انحدرنا إلا الرعاة وحراس الوادي، وكل من دنا منا مستجيراً فأجرناه، وعليه أخذنا العهود، ومنه استوثقنا بالمواثيق، بألا يوالي غيرنا والا يخون كبيرنا، ولا يغدر بصغيرنا، عليه ما علينا، وله منا حق الاجازة، أهل وجيران، السماء تظلنا بغيومها، والوادي يحفظ لنا وجودنا وتآلفنا"ص
29هكذا يرسم هذا الحديث طبيعة الحياة في الوادي، تضامن من أجل الحياة، واحتفاظ بالطبقية، وحقوق السيادة للأصل المنحدر الذي استقر بالوادي دون غيرهم ممن يمتهن الرعي والحراسة، ولهم عزلتهم التي جاء هذا السفر السردي كاشغالها، ومغيراً لنمطها، فجاءت الكتابة التي حركت هذا الساكن، واشعلت علاقات جديدة فيه ف"ابن عيدان" يحاور سهل الراوي - بطل النص، فيقول له: "وتعلم أنت أن قصتك عن عزة كتبتها تختلف في كثير عن مسيرتنا وقصتنا، نحن لم نكتبك في سجلاتنا، ولم نستدعك لأرضنا، ولسبيلك لم نعترض، وسوءتك لم نكشف، عرفنا انك تتحول بالغرب منا في كتابتك تومئ ولا تحدد، تحوم حول المحارم دون الوقوع، تغمز وتلمز، ولكنا لم ندخل نصك كوجود حتى كتبت عزة ومسعود مسست جرحنا، وكشفت سراً عن الناس كان مخفياً" ص 29، 30

السفر والسرد "2"

وحين يجلو عالم السرد طريق السفر ومحطته تتجلى رهائن ومرتهناتها التي يقيم السارد من العلاقة الجدلية بينهما حركة تنهض السرد، وتشعله بطاقات السفر؛ فالسارد يرسم من ذلك عاديات السفر وهيمنته التي ترغم على التحول، والتكوُّن الجديد للمسافر ليكون ذلك التكوُّن تكويناً لشخصيته السردية، ورسماً لمواقفها تجاه التغير والتحول، وتقبل المفاجآت والغرائب، وحينئذ يكون طريق السفر ومحطته فضاء لاشعال السارد لطاقات شخصياته، واستثمار مواجهاتها لما تعرض له، ليصنع من ذلك عوالم سرده المنسجمة مع ارادته، وفعله الكتابي..
وإذا كان السارد يلجأ للسفر لاحداث التغير، ولحكاية النمط الآخر من وجه الحياة الذي يأتي به فعل السارد المسافر، وفعل السفر فإن ذلك أيضاً يعطي مؤشراً على ضيق المكان الأساس بالتغيرات، والحاجة إلى الهزات التغييرية التي تستجلب من السفر؛ فحين ينتقل العمل السردي إلى علاقات المسافر في المكان الجديد فإنه يشعل بذلك افقاً موازياً للأفق الذي تتحرك فيه علاقات المكان الذي تم منه السفر، وهذا ما نلحظه في حال الانتقال من القرية إلى المدينة، حيث يضع السفر القرية كما تمت الاشارة سابقاً على علاقات جديدة غير مألوفة، ويستدني اليها علاقات المدينة البعيدة والمختلفة عنها، والفضاءات التي يبدأ السرد خلقها في العواطف والأفكار، وسؤال القادم والمتغير، وفي رواية "الغيوم ومنابت الشجر" - التي كانت محور حديثنا السابق - نجد حمدان بن ظافر الذي يخشى عليه والده من السفر، حيث يرى ظافر - كما يقول النص -: ".. انه ولد مخالف لعادات أبيه، فلم يكن بالذي يحب الزراعة، ولا الزواج في أول الشباب، وليس بالذي يعطي واجب الفروض، ويرى أن المدينة زادته عصياناً وعلمته التمرد والغواء (وهذه عادة المدن في تخريب فطرة أبناء القرى" ص85، 86.هنا نجد السفر يفتح طريقاً لسفر السارد بين العالمين، عالم القرية وعالم المدينة، ليس فقط في المظاهر السطحية للانتقال من مكان إلى مكان، بل في التغيرات الاجتماعية، والثقافية، والموقف من العادات والتقاليد، مما يتيح للسارد أيضاً اظهار الصوت النقدي للحياة ونمطها في كلا المكانين، فلئن كانت هناك تغيرات ايجابية فلا شك أن من التغير ما ليس ايجابياً، ولكن ذلك يأتي بأسلوب الايحاء الذي يجمل، ويشير ولا يفصل، وهو ما تسمح به طبيعة الفن.
ونجد عند أحمد الدويحي السفر مثار أسئلة لتفسير التغير أو التنبؤ بحال مغاير، وذلك كما جاء على لسان "البتول" احدى شخصيات عمل "أواني الورد"، حيث تقول بعد حديث طويل: "أبي يعبر بي البحر من جديد، مرة اخرى يعبر البحر، هذا أب اختصر الحياة والناس والبلاد والبحار في كلمة واحدة.. الناس عند أبي مرضى بين يديه، والآخرون من أهل الخير، فإذا اكتشف العكس، خاف عليهم من نفسه، أما هو فيظن في نفسه، انما بعث كله خير لنا ولهم"..
أخيراً خرج أبي من جزيرة أحلامه، كما خرج اجداده العرب من قبل استعاد أبي سفنه، ليعبر بي البحر مرة اخرى، ريثما يتزود بطاقة اخرى، ليعاود البحث عن فتوحات جديدة".. ص 73.يأتي السرد هنا مستثمراً للسفر في تغيرات الشخصية، واضطراب المصير، هذا الأب المسافر باستمرار يجعل السرد سفره مجالا لتأملات "البتول" يأتي السفر قاطعاً لأحلامها، حين تزف إلى عالم الثراء والتعليم "قطفت حلمي، مضيت كجنازة في منتصف الليل" ص76، تتعاضد هنا فاعلية السرد، وقدر السفر، ليجهز على الحلم، ويقضي على البراءة، فيرتد عبور البحر إلى كارثة تخلق فتنة تغضب الوالي، فتحل لعنة الرحلة المعاكسة، وها أنا ثانية في مركب الرحيل المُر، بلا صرخة جديدة هذه المرة، بلا حارس وحلم" ص78، وهكذا نجد السفر معبراً من حال إلى حال، فبقدر ما يزيد من أحلام، ويزرع من آمال، تأتي فجائعه تبدد كل ذلك، وتحل بالمفاجآت، وتهيىء الفضاء السردي لتجاذبات الرحلة والعودة، فيكون السفر فضاء التحولات والآمال، وفضاء نوازع الشر والخيبات.
ويضع الدويحي أحد أبطال عمله الآنف الذكر "فالح" المسافر مرآة لقراءة واقع وأحوال الذين لم يسافروا، فيقول السارد عنهم حينما اصطفوا لمقابلة العائد: "الرجال الذين فقدوا خيط الزمن، ولم تعد صلاتهم وعلاقاتهم أبعد ما حولهم، لا بد انهم يجهلون حجم التحولات في حياة رجل يترجل للتو من سيارة لاتتناسب وطبيعة الصحراء، فزّ أحد الذين بدت على محياه الحياة الجديدة واقفاً:

حيا الله فالح.. أهلاً يا دكتور:

(فالح.. فالح)" ص 19 فالسفر بما هيأ للمسافر من تكوين جديد، جعل السرد ينظر إلى الآخرين القاعدين من خلال هذا التشكيل، ليغوص في أعماق هيئاتهم، وينظر إلى ماحرمهم السفر اياه، وما انغلقت علاقاتهم عليه بسبب عدم خوض هذه التجربة، والدخول في هذه المغامرة التي تمنح النفوس تشكيلا وعلاقات جديدة، وقبضاً على خيط الزمن تنمو به حيواتهم، وتعرها نوافذ السفر.

ويظل السارد المسافر ممسكاً بتلابيب الزمن، يفتح به نوافذ الذاكرة على الماضي، وكأن المسافة الزمنية التي قطعها بين اللحظة التي يسرد فيها واللحظة المسرودة تلتحم مع المسافة المكانية بين المكانين؛ فتكون اللحظة سفراً عكسياً إلى المكان الاول في اللحظة الاولى، فتتجلى مغامرة الكتابة وهي تستعيد في أفق السفر اللحظة الزمنية التي كانت تعانق المكان الأول، وكأنها تأخذ المسافر إلى طريق يعكس اتجاه اللحظة ليستعيد حيوية الأيام الاولى، ومراتع الصبا، كأن الموقع الجديد الذي يحل به المسافر يدفعه إلى مراجعة زاده، والرجوع إلى ما يستقوي به على نفي الزمن الجديد والمكان الجديد، فتمضي به الكتابة السردية إلى السفر في عوالم اولى لم يحن السفر اليها قبل ذلك، فيجلي قراءتها ويستبطن عوالمها، ويستنبتها قوى خلاقة في زمن السفر، وعاديات المكان الجديد، من مدنية وصخب، وفوضى، وتشابك مصالح فيسافر إلى البراءة والفطرة، وغناء الروح يقول الدويحي: "بحسبة بسيطة فتحت نافذة في ستارة الليل، ولم يكن بالأمر الهين، واضاءت لي كواكب الليل في مدينة أسرفت فيها ثلث عمري ساهياً في دروبها، وقفت فوق صخرة صماء، أسمع صوت عرضة، وزير وحداء وشاعر، وينتفض قلبي الصغير، ويرحل الخيال الغض، في سماوات وسنوات بعيدة في نهاية الليل تكتشف أمي المندسة، في ثياب الليل بين النساء، فوق صخرة مجاورة، أن شاعرها الصغير يحلم في سبات عميق، بعد أن أكون قد اشعلت مصابيح الفرح.." ص 229.هكذا نجد السرد يجعل الكتابة سفراً من عالم اللحظة إلى عالم الماضي، فتكون هذه الكتابة اشتعالا بالطاقة الاولى من حياة السارد، واشعالا لها في المكان الأول، وإعادة لقراءة الحيوية والتطلع إلى الأفق الغض، ليستنبت به وجوداً جديداً يغالب به عاديات الزمن عليه في الموقع الجديد.

د - عالي القرشي