بحث في الموقع

عبدالله السمطي

(1)
عَرّابُة الروحِ هي الكلماتُ، إنها تقولُ بشكل آخر، بصوت مختلف عبر النص الابداعي، الذي ليس هو بالضرورة ما يجري على سطح الورقة، المكتوب على سطح الورقة ليس هو النص الحقيقي بل هي اشارات لدلالات اخرى، من هنا فان المبدع لاتتم قراءته سطحيا من خلال ماجرى من حروف محسوسة، بل تتم عبر قراءة الكلام الغائب، المعاني المظللة والمضللة لما هو مباشر، عبر الكلام الخفي، كلام الروح.


هكذا يمكن لنا ان نصف كتابة القاص والروائي احمد الدويحي ان كتابته قد تبدو نوعا من التكسرات، او شكلا من اشكال تشظي المعاني، لكنها في التحليل الاخير، وعبر افق الوعي الكامل، تنتظم هذه المعاني هناك، داخليا في افق الروح، فتصبح المتطابقات والمتضادات ضربا من ضروب التكامل والايلاف والتلاقي، ويصبح ما هو متشظٍّ ملموماً في جوانيّة النفس، ودهاليز الشعور.
بهذا المعنى يمكن ان ننفتح تأويليا على ابداع احمد الدويحي كانت الكلمات البريئة الوضيئة هي مراسه الاول الذي انبثق في قريته «العسلة» جنوب السعودية، الجنوب الذي حمله على ظهر ابجديته حيثما حل، زماناً ام مكاناً، كتابة ام صمتاً، سؤالاً ام يقيناً، هنا تتجوهر «العسلة» وتتكوكبُ في مدار سرداته كأفق زماني خلفي، لنثر نصوصه، ولتقاطعاتها الدلالية، الريفيّ في المدينة لاتتغير جلابيب روحه، او مريولات قلبه: انها الحدة والجلافة الطيبة التي تخرج من اصوات الروح الحسنى هكذا احمد الدويحي في اقواله وافعاله.
بدأ الدويحي ب«البديل» بقصص رمزية رفضها من فحصها بنادي ابها الادبي في منتصف ثمانينات القرن العشرين، وطبعها الدويحي على نفقته في العام 1986. ألم يكن هذا الفاحص الناقد يتسم برحابة التلقي، ليصغي لصوت الصمت الرمزي داخل النصوص، هل لابد ان تكون النصوص زاعقة ومباشرة مادحة وقادحة، واصلة للقارئ على طبق من ذهب؟ اي ابداع هذا الذي يتساوى فيه النص بنشرة الاخبار؟
الدويحي لم يُصدم، لم يتوقف، استمر في فلاحة نصوصه، وفي «تسبيخ» سرداته، وفي توسيع حدائق اشاراته وجمالياته الكتابية، تقليما، وتشذيبا، وسقيا، فقطف ثمرات ذلك في ثلاث روايات ريحانة واواني الورد والمكتوب مرة اخرى، وفي مجموعة قصصية اخرى هي: «قالت فجرها» في هذه المجموعة مازالت تصطخب مويجات نسائم قريته، بشخوصها وتقاطيعها «البارحة رأيتها كنا ندجّن الليل، والليل طويل، في مسراب الغروس، والوجوه الطازجة، والنار بيننا، نلتف حولها غربة عم حدقان، وبعض الكبار يفاجئوننا. الكهلة فاطمة بنت عيشماء، تداهن الليل، لئلا يبعث لها في آخره زبانيته، ولن نكون الا منهم».
ان التذكر فاعل رئيسي في خطاب الدويحي السردي، كأنه يخاصم الحاضر والمستقبل معاً، خصاماً ظاهرياً، انه يعود لماضيه الشخصي ليطل به تارة اخرى، يعظ الماضي، ويعظه الوقت لقراءة ماهو قادم، هكذا التذكر يدمج داخله التخيل، وفي المسافة مابين الاثنين يتردد السؤال وتنبجس الدلالة.
صوت الجدة، العمة، الخالة، الام، الاب، اصوات حاضرة على الدوام في قصصه ورواياته، ان هذه الشخوص الحميمة تفتح افقا نشطا للسرد هكذا مثلا في الرسالة يصوغ هذا المشهد من الاب: «اتذكر انه كان يسقط حبات التمر والموز في زبدية السمن ويحلف عليّ لأزدردها وفي مجلسه يسيتبقيني وقتا طويلا منصتا يأتي اليه الناس من كل القرى، يحتكمون فيما يختلفون حوله من عداوات قديمة وملاسنات نسائية حول الارض والمرعى.
حين نقرأ قصص «قالت فجرها» نحس باجواء القرية تتمطى وراء الكلمات تقلنا الى الحقول، والمزارع، والنزع الصغيرة، ووجوه البسطاء الانقياء، وايضاً الى العالم الغرائبي الفطري والى الطبيعة بكل شراستها وجلالها، التذكر يجعل الكلمات زمنياً ترتد للوراء ومكانياً، توظف الصورة، وسردياً تتشح بالوصف الذي يمهرُ نصوصا كثيرة للدويحي اذن يمكن القول: ان من اوابد الدويحي النصية عنصرين جوهريين: التذكر، والوصف، لا الوصف المعطّل للزمن بل الوصف الايجابي المتحرك الذي يعطي طاقات اخرى للنص دلالية، وجمالية.
(2)
ارسل سلامي
مع نسيم الصباح
للصاحب اللي صار
شوفه صعيب
***
وين الليالي
وين هاك المزاح
من بعد ما
حطوا علينا رقيب
الآلية الثالثة التي يستند عليها الدويحي في خطابه السردي، تنوع المستويات اللغوية، فخطابه السردي ينفتح على مستويات عدة من اللغة المباشرة، لغة الخبر والحوار اليومي، لغة اهل القرية البسطاء، الى الغناء الشعبي والشعر الشعبي، الى اللغة الرمزية والارشادية، الى لغة الشعر الذي يسم قسطا كبيرا من مشاهد السرد لدى الدويحي وهو ماجعل فاعلية التلقي لدى نقاد كثيرين غير ايجابية بالنسبة لطروحاته الروائية التي يكتبها بنزق، وبألم المبدع، بحساسية جديدة، وعلائق وثيقة فيما يعبر انه الكنّاس الماهر الذي يكنس ردهات المطلق بمخيلته، وتفاصيل المكان ببصره، وتقاطيع الغياب ببصيرته كما يستهل روايته: «اواني الورد»، بهذا المشهد: «حساسية جديدة وعلائق وثيقة، تربطني بمكونات المكان الذي اعتدت فيه ان اختلي بنفسي لحظة الكتابة، وكأن الاشياء جزء اصيل من تكويني النفسي والعضوي تستجيب لي، املي عليها ما اريد، وتضيف من دفقها شيئاً اسطورياً يجمل ويعمّق، وفي اللحظات المرئية الآخذة الاخرى حدث التصرف والحركة بشكل تلقائي وعفوي، غاية من الحميمية والاندماج، وكأن لكل شيء ايقاعاً يؤديه في اللحظات (النارية) وفي اللحظة الراهنة وهي امتداد طبيعي زمنيا وتراكم مكانيا مازال كل شيء في موقعه، وعشقي اصيلا للورقة البيضاء النقية، واقلام الحبر الاسود موصولا، ما بالي انتقل من الزمان الى المكان، ثم اعود دون ان اقبض على اثر لشيء منها في قلبي».
يمارس احمد الدويحي ايضا فعل التشظي، وتكسير الدلالة، وتشتيت القارئ باحداث ومواقف وشخوص شتى كما يظهر في روايته الثلاثية التي ظهر جزؤها الاول، «المكتوب مرة اخرى»، ثمة فعل دائب لبعثرة الاحداث ليتم لملمتها هناك حيث يتم تأويل الدلالة النصية وقراءتها كمشاهد متمازجة، بمعنى ان البعد السينمائي كامن في طريقة كتابة الدويحي، فهذا التشتت والتشظي يمكن لملمته دلاليا عبر القطع والمزج، كشريط سينمائى تتعاقب فيه المشاهد غير المؤتلفة حدثيا زمانيا ومكانيا، المؤتلفة دلاليا في التحليل النهائي للمشاهد.
كتابة كهذه هي نتاج الوعي الحديث الذي بدأ مع تيار الوعي واستمر لليوم ممتزجا ومتضامنا مع ماهو رمزي وسوريالي وتجريدي.
الدويحي يمكن ان يحكي وان يطيل امد خطاباته كما فعل في الثلاثية التي ستصدر قريبا لكنه يكتب معظم الاحيان بالحذف، وبمخاطبة الذات لا الآخر بالضرورة، هنا نرى ان الأنا تتضامن مع «انا» السارد في اغلب المشاهد المونولوجية في قصصه ورواياته وهذه ابعاد اخرى، وآليات للسرد يمكن الوقوف عندها لقراءة ابداع احمد الدويحي السردي.
(3)
احمد سعيد الدويحي 1372هـ 1953م، قرية العسلة محافظة الباحة، ثانوية عامة، ادبي 1979م هكذا تقول البطاقة الشخصية للكاتب، انه تعريف يحمله من كتاب لكتاب، ومن ورقة لاخرى، لكن ماوراء هذا التعريف سيرة مديدة مع الابجدية والحبر، ملايين اللحظات التي تمر بالكاتب، مئات الاعوام من العزلة والالم والمكابدة، خاصة اذا كان ريفيا وسارت به الاقدار الى المدينة، حينها يصبح الوجد على اشده، ويصبح الكاتب من أصحاب العزم من المبدعين، انه الجنوب الذي يخرج منه بنزق عبدالعزيز مشري وطاهر عوض سلام، وعلي الدميني، ومحمد الدميني، وعشرات المبدعين والمبدعات. الدويحي ينتقل مكانيا بجسده، لكن الروح معلقة هناك، على رفة غصن او اريج عشبة منداة بهزيم خفيف، او حتى على ذروة حبل ليقتنصها نسرُ السؤال، مديدة هي حياة الكتابة، ومع ان الكاتب اطال الله عمره عاش حتى الآن نصف قرن من الزمان الا انه بمثابة نصف دهر ونصف ابد مع الكتابة.
لماذا يحدث هذا الالم؟ انه احتراق المبدع بجمرات الحروف، هكذا ينبئنا الدويحي في «اواني الورد» وفي «المكتوب مرة اخرى» التي يستشهد فيها بمقولة للناقد التأويلي بول ريكور تقول: «اذا صح ان الخيال لايكتمل الا بالحياة، وان الحياة لاتفهم الا من خلال القصص التي نرويها عنها، فالحياة المبتلاة بالعناء هي حياة تروي هذا الاستشهاد ربما يجعل مفردة «العناء» دالة كبرى على الرواية التي يعاني شخوصها في مواقف واحداث متعددة بدءاً من «فاضل» الذي حج سبع مرات الى «منصور» الضائع الى السارد الباحث عن بطلة لنصه.
ان عالم الدويحي السردي عالم يتسع لقراءات عدة، بيد ان التأويل والبحث عن الآليات السردية لهذا العام يبقيان العنصر الاوفرحظا في تلقي ابداع الدويحي الذي يجد لذته «في تفاصيل اللحظة» فيما يقول في «المكتوب مرة اخرى» بطاقة الدويحي عنوان على زمان ومكان، ويستطيع القول انه عمل بالصحافة، وشغلته الوظيفة الحكومية ردحا من الزمن لكن العمل الاجمل والاقسى هو عمل الكتابة، والاشتغال بلعبة الكلمات التي هي عرابة الروح وبغيتها ومنيتها ومنيّتها معاً.
الدويحي وجه بارز من وجوه الكتاب الذين تشتعل ضمائرهم ببياض الدهشة، وبراءة الريفي، وعمق مخيلة المبدع وهو يحتاج لكثير من التأمل في نصوصه، فقط لقراءة هذا الوعي السردي المتفلت، الرواغ، العصي على الدلالة الاولية المطيع لكل تفجرات السؤال.