بحث في الموقع

د. صالح بن معيض الغامدي

يلاحظ المتتبع للدراسات والقراءات التي أنجزت عن الرواية العربية السعودية استشراء توجه أو منهج نقدي مثير ولافت للانتباه ، وربما شكل في بعض جوانبه خطرا عليها من وجهة نظرنا . يمكننا تسمية هذا المنهج بالمنهج السيرذاتي في دراسة الرواية السعودية ، قياسا على المنهج السيري في دراسة الأدب عموما . وهذا المنهج ينطلق صراحة أو ضمنا من افتراض مفاده أن كثيرا من الروايات السعودية ليست في حقيقة الأمر إلا سيرا ذاتية كلية أو جزئية لكتابها ، اتخذت من مسمى الرواية قناعا لها . وقد وظف هذا المنهج عدد من دارسي الأعمال السردية في بلادنا لعل من أهمهم الأستاذ الدكتور منصور الحازمي ، وتبعه في ذلك نقاد آخرون سنقف عند بعضهم وقفة متأنية نسبيا، ونشير إلى الآخرين إشارات سريعة ، إذ ليس هدفنا هنا إثبات جميع ما قاله أو فعله النقاد في هذا المجال بقدر ما هو التدليل على استشراء هذه الظاهرة أو هذا المنهج .
ظهرت ملاحظات الدكتور منصور الحازمي وآراؤه حول سيرذاتية الرواية السعودية في دراساته السابقة التي كتبها عن الرواية السعودية مثل الدراسة التي كتبها في كتابه " فن القصة في الأدب السعودي الحديث " والدراسة التي قدم بها لرواية " ثمن التضحية " للدمنهوري وغيرهما ، ثم عاد مؤخرا ووسعها وكرسها في الدراسة التي كتبها مقدمة للجزء الخاص بالرواية من موسوعة الأدب العربي السعودي الحديث . فهو مثلا يرى أن رواية ( فكرة ) لأحمد السباعي تتقمص شخصية المؤلف " وأنها " أشبه بالترجمة الذاتية " هذا على الرغم من كونها أنثى . أما رواية ( البعث ) للمغربي فهي في اعتقاده " تقترب كثيرا من السيرة الذاتية " ، و ( ثمن التضحية ) لحامد دمنهوري " صورة طبق الأصل لشخصيته " و " إنها أقرب إلى السيرة الذاتية " . ويقول عن روايات إبراهيم الناصر ، وخاصة ( ثقب في رداء الليل ) و ( سفينة الموتى ) ، إنها ذات طابع سيرذاتي ، ويقول عن رواية عنقاوي ( لا ظل تحت الجبل ) إن كاتبها " يسترجع فيها شيئا من أحداث طفولته وشبابه في مكة المكرمة كما فعل السباعي والبوقري " ويستشهد على ذلك بما ذكره الكاتب في مقدمة الرواية عندما قال : " تراءى لي أن أنقل صورة الواقع والوقائع الإنسانية وأن أسجل شريطا من الأحداث الاجتماعية ...وأن أرسم ... لوحة من العادات والشخصيات والعقليات التي كانت تزخر بها مكة " . وهذا استشهاد لا يعزز ، في رأينا ، مقولة الهدف السيرذاتي من كتابة هذه الرواية بقدر ما يعزز اهتمام الكاتب بتصوير الواقع المكي بشكل عام . ويقول الدكتور الحازمي في معرض حديثه عن مجموعة من الروايات السعودية " نستطيع أن نلاحظ الطابع السيري في رواياتنا المحلية عند أحمد السباعي وحمزة بوقري وغازي القصيبي بل وعند بعض الأعمال الروائية في مرحلة التحديث من أمثال رجاء عالم وعبد العزيز مشري وعبده خال " . ويقول أيضا " لقد أصبحت السيرة الذاتية أو الحنين إلى مرابع الطفولة والصبا ..." من مظاهر الرواية الفنية في مرحلة التجديد ، ويذكر من هذه الروايات التي يرى أنها تنحو نحو السيرة الذاتية في هذه المرحلة : ( السنيورة ) لعصام خوقير و( النشور ) لعمر زيلع و( شقة الحرية ) للقصيبي . وفيما يخص ( شقة الحرية ) تحديدا ، يقول عن شخصية فؤاد فيها : " وأغلب الظن أنه هو المؤلف نفسه ، والحقيقة أن هناك الكثير من الدلائل التي تشير إلى التطابق الفعلي بين فؤاد وغازي " . وعند حديثه عن رواية التحديث يقتبس الدكتور الحازمي رأيا لحسين المناصرة في كثير من الروايات السعودية التي صدرت في الأعوام الأخيرة مفاده " أننا أمام جنس سردي جديد هو " الرواية السيرية " ويوافقه فيما ذهب إليه . ويرى الدكتور الحازمي أن روايتي رجاء عالم ( طريق الحرير ) و ( سيدي وحدانه ) لهما طابع سيرذاتي ، وأن ما تسرده الكاتبة يقترب من السيرة الذاتية . ويقول الحازمي أيضا واصفا ( العصفورية) للقصيبي إنه يغلب عليها طابع السيرة الذاتية ، وإن البطل فيها أو البرفسور المريض لا يعدو أن يكون المؤلف نفسه " . ونحن هنا نرى بوضوح مدى الحضور أو الاستدعاء المكثف للسيرة الذاتية في نقد الدكتور الحازمي للرواية السعودية .
ومن النقاد الذين ألحوا على هذا الجانب السيرذاتي في دراساتهم للرواية السعودية ، ولو بشكل أقل حدة مما رأيناه عند الحازمي ، الدكتور محمد الشنطي وخاصة في كتابه ( فن الرواية في الأدب العربي السعودي المعاصر ) . ويبدو أن الشنطي قد أسهم إلى حد ما في ترسيخ هذا المنحى في تلقي الرواية السعودية من خلال استدعائه في تحليل بعض الروايات السعودية ، وإن كان مفهوم السيرة الذاتية أو الترجمة الذاتية عنده لا يعني دائما سيرة كاتب الرواية الذاتية الذي يقوم بتحليل عمله تحديدا ، وسنعود إلى هذه النقطة لاحقا. ولعلنا نستشهد هنا ببعض المقاطع التي تظهر استدعاء سيرة الكاتب الذاتية أثناء تحليله لبعض الروايات . يقول ، مثلا ، عن البوقري مؤلف ( سقيفة الصفا ) إنه " جنح إلى أسلوب الترجمة الذاتية محللا للشخصية وظروفها وأولى عناية خاصة للمكان وتصوير ملامحه وتضاريسه " . ويقول عنه أيضا : " والنزوع إلى الترجمة الذاتية يتبدى في أكثر من موقع إذ يشير الكاتب إلى تجارب أدبية ، يفهم منها أنها تخص الكاتب نفسه ، بل وتكاد هذه تنطبق على تجربته الروائية " . ويقول أثناء تحليله لبعض روايات إبراهيم الناصر : " ونلحظ بوضوح النزعة السيرية , أي اصطناع أسلوب الترجمة الذاتية والاغتراف من التجارب الخاصة في روايته هذه [ ثقب في رداء الليل ] التي نجد امتدادا لها في ( سفينة الموتى ) التي صدرت بعدها " . ويقول عن رواية سلطان القحطاني ( طائر بلا جناح ) إن الكاتب فيها " ينحو منحى السيرة الذاتية " .
ومن النقاد الآخرين الذين عملوا على ترسيخ هذا المنحى السيرذاتي في نقد الرواية السعودية الدكتور سلطان القحطاني ، فهو يؤيد الدكتور الحازمي في رأيه حول رواية ( البعث ) للمغربي عندما يقول " إن عناصر السيرة الذاتية تكثر فيها " . ويقول عن روايتي الدمنهوري ( ثمن التضحية ) , ( ومرت الأيام ) إن الأولى هي " صورة لحياته طالبا في جامعة القاهرة " ، والثانية " تمثل مرحلة ثانية من مراحل حياة الدمنهوري " . وفي تحليله لرواية ( سقيفة الصفا ) للبوقري ، يصفها بأنها " عمل روائي بطله المؤلف نفسه " ، وأنها " رواية " معبرة عن سيرته الذاتية في مكة " . وفي المحاضرة التي ألقاها الدكتور القحطاني مؤخرا في نادي الرياض الأدبي قال في معرض مقارنته بين الروايات التي ظهرت بعد التسعينيات وكثير من الروايات التي ظهرت قبلها : " لم تعد الرواية سيرة بل تحولت السيرة إلى رواية " . وبناء على كلام الباحث ، فالسيرية هي قدر كثير من الروايات السعودية ، فالفرق بين النوعين لا يكمن من وجهة نظره في حضور السيرذاتية أو غيابها بل في درجة حضورها فقط .
أما الأستاذ حسن الحازمي فقد خصص في دراسته الرائدة عن البطل في الرواية السعودية جزءا من الفصل السابع لدراسة " العلاقة بين شخصية الكاتب في الحياة وشخصية بطله في الرواية " ، وقد حاول جاهدا في هذا الجزء أن يربط بين أبطال عدد من الروايات وكتابها متبعا في ذلك الدراسات التي سبقته ومحيلا عليها . يقول الباحث " وقد تبين لي من خلال تحليلي لعدد من الروايات السعودية وجود علاقة واضحة بين عدد من الكتاب وأبطالهم " . ويحدد من هذه الروايات مثلا رواية ( ثقب في رداء الليل ) و ( سفينة الضياع ) لإبراهيم الناصر ، ويرى الباحث أن حياة عيسى عمار النجدي ، البطل " تكاد تكون صورة من حياة الكاتب " . ويقارن الباحث بأسلوب يشبه أسلوب التحري البوليسي بين ما ورد عن البطل في الرواية وبين ما ذكر عن حياة الكاتب في الترجمة التي وردت له في موسوعة الأدباء والكتاب السعوديين ، ثم يستنتج " التقارب الكبير بين شخصية الكاتب في الحياة وشخصية بطله عيسى عمار ، إذ إن الأحداث البارزة في حياة البطل هي ذاتها الأحداث البارزة والمهمة في حياة الكاتب ليس ذلك فحسب ، بل إنهما ليشتركان في كثير من التفاصيل الصغيرة كمصادر الثقافة والهوايات …. " ، ويأخذ الباحث في تفصيل هذه الأمور المشتركة بينهما من خلال المقابلة بين ما ورد في الرواية وما ورد في ترجمة الكاتب المشار إليها آنفا . ومع ذلك ، فالباحث يقول بعد هذا كله إنه لا يستطيع أن يجزم بأن عيسى عمار هو إبراهيم الناصر . ولعلنا نتساءل هنا عن الجدوى الأدبية والنقدية لمثل هذا البحث والتحري . ويفعل الباحث الشىء نفسه مع رواية ( فكرة ) للسباعي ، إذ يتبنى موقف الدكتور الحازمي من أن " فكرة هي المؤلف " . ويعقد الباحث كذلك مقارنة مطولة بين شخصية" أحمد عبد الرحمن " بطل رواية ( ثمن التضحية ) وبين كاتبها الدمنهوري ، لكنه لا يستطيع الجزم بأنهما متطابقتان - كما فعل الدكتور منصور الحازمي - رغم تشابههما ، والسبب في تبني حسن الحازمي لهذا الموقف ليس سببا فنيا كما قد نتوقع ، بقدر ما كان سببا مبنيا على عدم وجود سيرة ذاتية للكاتب " ولو أن الكاتب سطر سيرته الذاتية لأمكن من خلالها الحكم الجازم " . والغريب هنا أن الباحث لا يتساءل عن مصداقية المعلومات والحقائق التي يستقيها من المصادر الخارجية التي يستدعيها في بحثه .
ويروم الباحث هذا الربط بين بطل الرواية وكاتبها في عدد من الروايات الأخرى مثل ( فتاة من حائل ) لمحمد عبده يماني ، و ( الوظيفة حبيبتي ) لهادي أبو عامرية ، و ( السنيورة ) لعصام خوقير ، و ( طائر بلا جناح ) لسلطان القحطاني ، و ( سسقيفة الصفا ) للبوقري ، و ( والوسمية ) و ( الغيوم ومنابت الشجر ) للمشري . وعلى الرغم من أن موقف الباحث يبدو عموما مترددا ومتذبذبا في الجزم بضرورة تطابق أبطال الروايات مع مؤلفيها ، وعلى الرغم من وعيه بأن " الشخصية الروائية ليست هي المؤلف الواقعي " ، إلا أنه لا يتردد أحيانا في الربط الوثيق بين الآراء التي يتبناها أبطال الروايات وبين كتابها ، يقول عن عصام خوقير مثلا : " وسأقف مع عصام خوقير وقفة متأنية من خلال رواياته لنرى كيف ظهر أثر ثقافته على أبطاله من خلال تبنيهم لآرائه وقناعاته " والخطورة هنا هي أن نصدق بأن هذه الشخصيات الروائية تعكس دائما أو بالضرورة أفكار كتابها وآرائهم ، ثم يتحول التحليل النقدي لدينا إلى محاكمة فكرية لمبدعيها أو إلى مدحهم أو القدح فيهم ، وهذه نقطة سنشير إليها لاحقا . لقد كان بإمكان الباحث أن يكتفي بما ذكره في هذا الفصل من أن الكاتب قد يفيد من بعض تجاربه في الحياة وخبراته الشخصية في رسم المحيط الروائي الذي يتحرك فيه " ، دون إغراق نفسه في هذا التحري الذي لا طائل من ورائه فيما نعتقد .
ولعل من أكثر النقاد الذين أولوا السيرة الذاتية في الرواية السعودية اهتماما خاصا وحللوا كثيرا من الروايات من هذا المنظور الدكتور حسين المناصرة . فقد نشر في عام 1998م مقالة بعنوان " السيرة الروائية " طرح فيها مقولتين تتعلقان بالرواية ، الأولى ترى أن الكاتب الذي يكتب روايته الأولى يكتب فيها أيضا - رغما عنه - سيرته الذاتية ، أما الأخرى فترى أن كل إنسان قادر - إن كان يعرف الكتابة - على أن يدون صفحات عديدة من سيرته الذاتية . واعتمد عليهما في النظر إلى ما نعته بالكتابة السيرية الروائية التي أصبحت في رأيه " الفن الأكثر شيوعا لدى كتابنا اليوم من منظار أنها كتابة جديدة ... تمزج بين السيري والروائي " . وكتب مقالة آخرى بعنوان " لماذا رواية التسعينيات " ناقش فيها العلاقة بين السيرة الذاتية لكتاب الرواية السعوديين في هذه الفترة وبين أعمالهم الروائية ، وطرح فيها أسئلة جادة لعل من أهمها " لماذا الميل الواضح في الروايات إلى نهج الرواية السيرية ( السيرة الذاتية ) " ؟ . وأجاب عن هذا التساؤل بعزو هذا الميل السيرذاتي عند كتاب الرواية إلى التحولات الثقافية والاجتماعية عن طريق الانفتاح على العالم من حولهم والحرية التي تحققت لهم في هذه الفترة ، فلم " يعد الكتاب يخافون من وصف أعمالهم بأنها سير ذاتية " . ومن هذا المنظور يقرأ المناصرة كثيرا من الروايات السعودية قراءة سيرذاتية ، لاعتقاده بأن كثيرا من الروايات هي " سير بطريقة أو بأخرى لمبدعيها ، خاصة أن أي روائي أو روائية لا بد أن يكون عمله الأول على الأقل متولدا من تجاربه أو من علاقة حميمة بها . وقد تمد هذه التجارب إلى ثلاثية روائية فأكثر " . وقد قدم المناصرة سلسلة من القراءات لعدد من الروايات السعودية [ ووعد بتقديم المزيد ] ، وكتب مقالة بعنوان " ذاكرة رواية التسعينيات " برر فيها منهجه القرائي وأكد فيها قناعته بسيرذاتية الرواية السعودية في هذه الفترة التي تمتح كثيرا من ذاكرة كتابها ، يقول : " من هنا أعتقد أن كتابتي عن الذاكرة في الرواية السعودية كتابة تبرر نفسها بنفسها عندما تجعل ذاكرة المبدع هي مركزية هذا الخطاب السردي ، سواء أكانت الذاكرة ذاكرة سيرية ذاتية أم أنها ذات احتمال أن تكون ذات ذاكرة سيرذاتية بوصفها حالمة... " . وقراءات المناصرة تحقق في اعتقادي نجاحا كبيرا وتبدو قوية ومقنعة عندما لا تربط ذاكرة السارد بذاكرة المؤلف أو سيرته كما يتضح من قراءته لرواية ( مدن تأكل العشب ) لعبده خال مثلا ، وتضعف كثيرا عندما تربط بينهما كما يتضح ذلك من قراءته لرواية ( ذاكرة في مهب الريح ) لسلطان القحطاني ، ورواية ( الحزام ) لأبي دهمان .
ولعلنا نختم هذا الجزء من ورقتنا بمناقشة بعض ما كتبه الدكتور معجب الزهراني إذ شهدت كتاباته النقدية في اعتقادي تحولا مهما فيما يتعلق بموضوع سيرذاتية الرواية السعودية . فقد وظف الزهراني المنهج السيرذاتي أو ملامح منه في دراسته للرواية السعودية وخاصة في الدراسة التي كتبها عن (شقة الحرية ) ، والتي يقول فيها : إن " غازي القصيبي يستثمر جيدا حرية الكتابة الروائية فيضمن نصه عناصر من السيرة الذاتية " . ويصف الطريقة التي كتب بها القصيبي روايته بقوله : إن " هذه الكتابة تتميز في السياق الروائي العربي بقوة حضور عناصر السيرة الذاتية في النص " . وفي الدراسة التي كتبها الدكتور الزهراني مقدمة للمجلد الخاص بالسيرة الذاتية من موسوعة الأدب السعودي ، يرى أن اتخاذ الرواية قناعا لكتابة السيرة الذاتية في الأدب السعودي " ظاهرة عامة في الكتابات الروائية منذ حامد دمنهوري إلى غازي القصيبي وتركي الحمد مرورا بمحمد عبده يماني وسميرة بنت الجزيرة وعبد العزيز مشري " . ويقرأ الزهراني ( سفر الخروج ) للمرزوقي بوصفه " سيرة روائية أو رواية سيرية تنهض على لعبة التخفي ... لتعبر بطرق التلميح عما لا يمكن التعبير عنه تصريحا " . ويقول مؤكدا سيرذاتية أعمال غازي القصيبي في هذه الدراسة أيضا : " نعتقد أن سيرة الكاتب غازي القصيبي خاصة توجد موزعة بين هذا النص [ سيرة شعرية] و(شقة الحرية ) و(حياة في الإدارة) و(العصفورية) " . وفي مقالة له بعنوان " لماذا لا تخرج الرواية من رحم السيرة والقصيدة " يناقش الدكتور الزهراني العلاقة بين السيرة الذاتية والرواية ويصفها بأنها علاقة معقدة لا تزال تحتاج إلى بحوث معمقة في السياق العربي بعامة وفي سياقنا الثقافي المحلي والوطني بشكل خاص " . و يبدو أنه في هذه المقالة قد خفف من حدة رأيه السابق الذي أشرنا إليه فيما يتعلق بالقناع السيرذاتي في الرواية السعودية ؛ فهو وإن كان " لا يستغرب أن يستحضر الروائي عناصر أساسية من سيرته الذاتية في عمله " ، إلا أنه يستغرب ما يقوم به بعض نقادنا عندما يقرؤون الأعمال الروائية السعودية على أنها سير ذاتية ، يقول : " إنه لمن الغريب حقا أن يتوهم ويصدق ناقد ما أن من تمام حقه أن يحكم على نص سردي يسميه كاتبه وصاحبه "رواية" بأنه ليس رواية وإنما هو "سيرة ذاتية" … فحكم كهذا يدل أولا وقبل كل شيء على أن الناقد ليس متابعا جادا لا للكتابات الرواية ولا للنقد الروائي ، وبالتالي فإن حكمه يفتقد إلى أي وجاهة معرفية في هذا المجال " . وعلى الرغم من حدة هذا الحكم ( الذي هو منصب بالدرجة الأولى على النقد الصحفي فيما أظن ) إلا أنه يعبر في اعتقادنا عن عدم رضاه عن استشراء ظاهرة " سيررة " الرواية المحلية في الكتابات النقدية وتذمره منها .
وما دمنا نتحدث هنا عن الاحتجاج على هذه الظاهرة ، فإن من المناسب أن نشير إلى ما ذكرته الدكتورة لطيفة الشعلان منتقدة بعض الأكاديميين الذين يمارسون النقد السيرذاتي للرواية السعودية ، تقول : " يطيب لأستاذ جامعي … أن يقول كلما سنحت فرصة أن ما كتبه غازي القصيبي وتركي الحمد يعد سيرة ذاتية ، والسيرة الذاتية ليست رواية ، لكن حسب ما أعرفه فإن المبدع إذا لم ينص صراحة على غلافه بأنه سيرة ذاتية فإن عمله حينها يعد رواية " . ومن الغريب أنني لم أقف فيما اطلعت عليه من دراسات ومقالات على من ينتقد هذا المنهج السيرذاتي غير الدكتور الزهراني والدكتورة الشعلان .

كتاب الرواية والنقد السيرذاتي :

لعل من المناسب هنا أن نطرح السؤال التالي : ما موقف كتاب الرواية أنفسهم من النقد السيرذاتي الذي يمارس على رواياتهم ؟ على الرغم من أننا ندرك أن الناقد الأدبي ليس معنيا بالضرورة بما يقوله الكتاب عن أعمالهم ، فإن الوقوف على بعض شهاداتهم أو إجاباتهم على التساؤلات التي تطرح عليهم بإلحاح حول إمكانية أن يكونوا هم أنفسهم أبطال رواياتهم قد يكون مفيدا لنا هنا . ولعل النتيجة التي نخرج بها من خلال الشهادات والمقابلات التي اطلعنا عليها هي أنهم ربما كانوا جميعا يرفضون الإقرار بأن يكونوا أبطال رواياتهم ويحتجون بأساليب متعددة على مثل العلاقة التي يجدها أو يوجدها النقاد أو القراء بينهم وبين أبطال رواياتهم . يقول الكاتب محمد حسن علوان في في مقالة كتبها ، لتقويم النقد الذي كتب عن روايته ( سقف الكفاية ) : " يزعجني كثيرا أني لم أجد حتى الآن نقدا احترافيا صرفا صافيا موجها نحو الرواية نفسها يأخذ النص قبل كاتبه " ، ويصف جل هذا النقد بأنه " قراءة اجتماعية في جسد المؤلف بدلا من قراءة نقدية في جسد النص " . ويقول إنه لو عصر ت بعض المقالات التي كتبت عن روايته " ما نزل منها إلا قطرات شحيحة من النقد الأدبي الصرف للنص "ذات النص" وليس أنا " . ويحتج على سيررة روايته بصوت عال فيقول : " أعني أن تتحول كل أحداث الرواية في أذهان البعض إلى جملة من الأوهام والعواصف التي كانت تختبئى تحت عباءة شبابي ووجدت لها نافذة تندفع منها على شكل رواية مثلما كان يمكن أن تجد لها نافذة أخرى على شكل سيجارة مثلا …" . ويجيب عن السؤال : هل حدثت معك الرواية ؟ إجابة بلاغية تضعف في اعتقادي أية محاولة لربط الكاتب ببطل روايته ( ناصر ) ربطا سيرذاتيا ، يقول : إنه " لبس ثياب البطل أو لبسه البطل وخرج به خارج نفسه " ، فناصر يشبهه في العمر والمستوى الاجتماعي والتوجه الثقافي واليتم ، لكنه يختلف عنه في الوضع الأسري وتجارب الحياة ونوعية الأحداث التي مر بها والحالة الصحية والنفسية وأيضا طبيعته المائلة إلى الانهزامية والركون إلى الرومنسية المعتمة والصبر الطويل والأمل المطاط … وهذه عادات وسمات يبرىء الكاتب نفسه منها . ولا أدري كيف يمكن أن يكون البطل هو الكاتب بعد كل هذه الاختلافات الجذرية .
وإذا ما انتقلنا إلى الروائي عبده خال ، الذي أولى هذه الإشكالية اهتماما خاصا ، فسنجده يقول : " ينبغي أن تكون مقولة "الرواية السعودية عبارة عن سيرة ذاتية" مقولة غير صحيحة ، فهي من وجهة نظره " مقولة ترددت في ظل الثقافة السمعية التي نعيشها " ويرى أن من يطلق هذه المقولة لم يقرأ الرواية السعودية بشكل جيد " . ويرى خال أن أعمال غازي القصيبي وتركي الحمد وعبد العزيز مشري ورجاء عالم وإبراهيم الناصر لا يمكن أن تكون سيرة ذاتية . وفي إجابته عن سؤال وجه إليه مفاده أن النقاد يقولون إن عبده خال يشبه إلى حد كبير كتاب السيرة الذاتية لكنه يمتاز بأسلوب جميل يوهم القارىء بأن أعماله روايات وليست سيرة ذاتية ، يقول " ورد في سؤالك لفظة يقولون وأنا لا أحب هؤلاء الذين يقولون لأنهم لا يقرأون . هم يأخذون مثل هذه المقولات من الجلسات الليلية … ويبثونها في مجالسهم " . ويروي خال قصة طريفة في هذا السياق مفادها أن طالبة دكتوراه اتصلت به وهي جازمة أن " يحي الغريب " بطل روايته ( مدن تأكل العشب ) هو الكاتب نفسه ، ولم يستطع إقناعها بأنه أصغر من البطل "يحي" بكثير وأنه لم يحضر ثورة اليمن وما حدث لمنطقته خلالها ، ومع ذلك فلم يفلح في إقناعها . ويعبر خال عن تذمره من هذه الإشكالية بقوله " كلما كتبت نصا طالبني البعض بمعرفة صاحبه أو إلصاقه بي مباشرة ، أعتقد أن مثل هذا الأمر يعود لوجود ترسبات لدينا نحن كقراء حين لا نفصل بين الكاتب وعالمه الروائي ونجزم أنه هو البطل … وبالتالي نتحول إلى قراء حقيقيين لا نفصل بين الواقع الروائي وبين الراوي " .
وإذا ما توقفنا عند بعض الأسماء الروائية الأخرى التي أدلت برأيها حول هذه القضية ، فسنجد أن تركي الحمد ينفي أن يكون "هشام العابر" بطل ( الأطياف) هو الكاتب نفسه أو أن تكون الرواية تدوينا لسيرة ذاتية ، يقول : " هشام العابر ليس تركي الحمد ولو كان هو لقلت ذلك بصراحة " ويرى أنه ينبغي أن نفرق بين استعانة المبدع ببعض تجاربه في إبداعاته الروائية وبين كتابته سيرته الذاتية ، يقول : إن " الكتاب في أنحاء العالم يستعينون بذواتهم وتاريخهم في كتابة أعمالهم الروائية ، لكن ذلك لا يعني أن البطل هو ذات المؤلف " . ولعل من المناسب هنا أن نتذكر التحذير أو التنويه الذي كتبه القصيبي في بداية روايته ( شقة الحرية ) الذي يقول فيه " جميع أبطال هذه الرواية وجميع أحداثها من نسج الخيال . والوقائع المنسوبة إلى أشخاص حقيقيين هي بدورها من صنع الخيال . وأي محاولة للبحث عن الواقع في الخيال ستكون مضيعة لوقت القارىء الكريم " . وفي مقابلة نشرت مؤخرا مع القصيبي مؤخرا ، سئل السؤال التالي " لماذا تتحول جميع أعمالنا الروائية إلى سير ذاتية مكشوفة "؟ ، فأجاب عن هذا السؤال بقوله : " هذا ليس صحيحا ، وما يقال في هذا المجال جهل . أنا كتبت " شقة الحرية " والذين قالوا إنها سيرة ذاتية لا يعرفون شيئا عن السيرة الذاتية " . ويصف عمله بأنه من صنع الخيال ، ويضيف منتقدا بعض النقاد الذين يلحون على " سيررة " الرواية بقوله : " أنا أعتقد أنه الآن موضة عند بعض النقاد [ أن يقول ] لا هذه ليست رواية هذه مجرد سيرة ذاتية...هذه ليست رواية ..هذه مجرد ذكريات.. [ عبارة ] هذه ليست رواية أصبحت ...كليشه جديدة "

دلائل سيرذاتية الرواية السعودية :

بعد أن وقفنا على هذا الموقف الرافض من كتاب الرواية للنقد السيرذاتي لرواياتهم ، لعلنا نتساءل هنا عن السبب الذي جعل كثيرا من نقاد الرواية السعودية وقرائها يربطون بين أبطالها وكتابها . نعتقد أن ثمة بعض المؤشرات أو الدلائل السيرذاتية الداخلية أو الخارجية التي عملت فرادى أو مجتمعة على تسويغ هذا الربط لدى كثير من النقاد الذين اطلعنا على كتاباتهم . وسنشير هنا فقط إلى أهم هذه الدلائل من وجهة نظرنا ونناقشها باختصار :
1- ضمير المتكلم (أنا) . فمعلوم أن أهم ما يميز السيرة الذاتية هو التطابق بين شخصية الكاتب والراوي /البطل . فأغلب السير الذاتية تكتب بضمير المتكلم ، وهذا الضمير هو أسهل وأوضح الأساليب التي تحقق هذا التطابق . ولعل سرد عدد لا بأس به من الروايات السعودية بهذا الضمير ( كما نجد في " السنيورة " و " سقيفة الصفا" مثلا ) هو الذي أغرى النقاد بالربط بين كتاب هذه الروايات وأبطالها لما لوجهة النظر السردية هذه من قوة في إضفاء الواقعية عل الأحداث . لكن توظيف ضمير المتكلم في الرواية ليس كافيا ، في حد ذاته ، لتبرير مثل هذا الربط . فهذه تقنية سردية يوظفها كتاب الرواية لإكساب نصوصهم مصداقية وواقعية من خلال الإيهام بأن النص يروي سيرة الراوي-البطل . لكن بعض النقاد لا يدركون أو يتجاهلون الفرق بين أن تكون الرواية المروية بضمير المتكلم سيرة للبطل وبين أن تكون سيرة للمؤلف ، وبين الأمرين فرق شاسع . ولعل الشنطي والمناصرة من النقاد القلائل الذين كانوا يقيمون هذا التفريق عند توظيفهم لمصطلح " أسلوب السيرة الذاتية " أو " أسلوب الترجمة الذاتية " في بعض تحليلاتهم للروايات التي تسرد بضمير المتكلم .
2- المكان والزمان . يعد الحضور القوي للمكان والاحتفاء الشديد به وكذلك التحديد الزماني في بعض الروايات السعودية سببا من الأسباب التي جعلت بعض النقاد يربط بين بطل الرواية وكاتبها ، ويقرأها قراءة سيرذاتية إلى حد كبير . فالدكتور الحازمي على سبيل المثال يذكر أن بعض الروايات الجديدة التي ظهرت في التسعينيات مثل رويات الحمد الأربع ورواية ( الغيمة الرصاصية ) للدميني ورواية ( الفردوس اليباب ) لليلى الجهني ، " تجمع بين ظاهرة المكان والسيرة الذاتية " . ويلاحظ معجب العدواني أيضا علاقة العنوان /المكان بالسيرة الذاتية كما هو الحال في روايتي ( طريق الحرير) لعالم و ( شقة الحرية ) للقصيبي . وعندما يدرس الدكتور الحازمي موضوع " مكة المكرمة في روايات أبنائها " يربط بوضوح بين المكان الذي تجري فيه أحداث الروايات وسيرة كتابها ، يقول : " كتاب هذه الروايات قد أرادوا البوح فيها عن ذكرياتهم ومشاعرهم الحميمة تجاه مدينتهم العتيقة ..." . ونرى مثل هذا الربط بين المكان الروائي والسيرة الذاتية عند الشنطي أثناء حديثه عن رواية القصيبي ( شقة الحرية ) إذ يقول معلقا على المكان أو البيئة في الرواية : " وكل ما جاء من وصف للبيئة العامة في الرواية يدل على معاناة حقيقية فالإطار الزماني والمكاني والبشري في الرواية يوحي بأن الرواية بيوجرافية الطابع " ، وإن كان لا يقطع بسيرذاتية الرواية تماما . لكن الاحتفاء بالمكان الذي ينتمي أو انتمى إليه الكاتب وبتفاصيله وواقعيته في بعض الروايات السعودية لا يكفي من وجهة نظرنا ولا يبرر الربط بين الرواية وسيرة كاتبها الذاتية ، فقد تكون الرواية الواحدة مثلا سيرة ذاتية جزئية ليس لكاتبها فقط بل لكثير من قرائها بهذا المعنى . وهذا ما أدركه القصيبي عندما قال تعليقا على من ربط بين سيرته وبين الأمكنة والأزمنة التي يصورها في ( شقة الحرية ) : " لو كانت [ أي الرواية ] قصة حياتي لما وجد فيها الكثير ممن درسوا في القاهرة قصتهم هم هناك " . ويقول كامل عراب في قراءة له لـ( أطياف) الحمد مشيرا إلى إمكانية أن تتقاطع كثير من تجارب القراء الحياتية مع التجارب التي يجسدها بطل الرواية وشخصياتها : " ولذلك فالذين عاشوا شبابهم في تلك المرحلة من حياة الأمة وقرأوا هذه الرواية بأجزائها الثلاثة لا بد أنهم وجدوا أنفسهم في إحدى شخصياتها ، ولا بد أنهم رأوا صورتهم في "هشام العابر " بطل الرواية ... فهشام العابر هو صورتنا جميعا " . وأنا شخصيا عندما أقرأ روايات المشري فإنني أجد فيها شيئا من ماضي ومن تجاربي وذكرياتي وبيئتي ، فهل هذه الأعمال سيرة ذاتية للمشري وحده أم أنها سيرة ذاتية لي أنا أيضا ؟ إنها ليست لا هذه ولا تلك . فهؤلاء الكتاب قد يكتبون بهذا المعنى الواسع للسيرة الذاتية سيرهم وسير كثير من قرائهم ، وهم في هذا الأمر لا يختلفون كثيرا عن غيرهم من مبدعي الأجناس الأدبية الأخرى بما فيها الشعر .
3- التاريخ الشخصي للكاتب . إن البحث في التاريخ الشخصي للكاتب والتحري عنه وربطه بأحداث روايته من أهم الأساليب التي اتكأ عليها بعض النقاد للتدليل على العلاقة التي تربط شخصية الكاتب بشخصية بطل روايته . ولعل خير من يبرز هذا التوجه دراسة حسن الحازمي التي أشرنا إليها ولاحظنا قلة جدوى هذا الأسلوب من الناحية الأدبية . ولم يكن حسن الحازمي هو الوحيد الذي وظف أسلوب التحري في محاولة الربط بين كتاب الرواية السعودية وأبطالها ، فقد سبقه إلى ذلك آخرون راموا الربط بين أعمال الناصر والمشري والقصيبي ...الخ وتاريخ حياتهم . بيد أن عملا من هذا النوع لا بد أن ينتهي دائما إلى النهاية الحتمية التي انتهى إليها حسن الحازمي ، الذي كان يصرح بعد كل تحر يقوم به أنه لا يستطيع أن يجزم بتطابق شخصية الكاتب مع شخصية بطله .
4- الوعي الكتابي للمبدع في الرواية . تتضمن بعض الروايات السعودية مقاطع يتحدث فيها الراوي/البطل عن تجربته في الكتابة الإبداعية عموما والروائية خصوصا وإشكالاتها . وقد لعبت هذه المقاطع في ظني دورا حاسما في ربط أبطال هذه الروايات بكتابها . ومن الأمثلة على هذه المقاطع ما ورد في ( سقيفة الصفا ) للبوقري ، إذ يقول الراوي/البطل "محيسن" " فلقد أخذت تراودني فكرة كتابة قصة طويلة ، أو رواية كما يسميها البعض على نمط بعض الروايات المترجمة التي كنت أقرأها ... ولكن عماذا أكتب ؟ " . ومثل هذه المقاطع نجدها أيضا في رواية (سقف الكفاية ) لعلوان ، إذ يقول الراوي/البطل "ناصر" " كتابتي صعبة هذه الأيام ، أنا الذي لا انفعل لقصيدة أرميها على الدفتر وأمضي ، إنها رواية تولد ..." ويقول أيضا " أنا الذي لم أكتب رواية في حياتي... " و " من أجل ذلك قررت أن أكتب رواية ... أريد أن أكتب رواية " و " نشرت الرواية قبل أن تنتهي السنة بعشرة أيام وجدتها معروضة في المكتبة التي التقيت فيها بمها قبل ثلاث سنوات ..." . ومثل هذا الوعي الكتابي نجده أيضا في بعض روايات أحمد الدويحي .

ولا يمكننا أن ننهي هذا الجزء من الورقة دون الإشارة إلى مقولة ترددت في كثير من الكتابات النقدية التي اطلعت عليها وبدت فاعلة إلى حد كبير في ترسيخ سيرذاتية الرواية السعودية ، أعني مقولة " الرواية الأولى لا بد أن تكون سيرة ذاتية لكاتبها " التي تنسب إلى كليف جيمس . فقد تبناها بعض النقاد وسلم بحتميتها ولم يناقشها كما رأينا عند الدكتور المناصرة . لكن ، هب أننا سلمنا بمشروعية الأخذ بهذه المقولة في قراءة الرواية الأولى لكاتب مثل الناصر أو الحمد أو خال ، فكيف نفسر قراءة أعماله الأخرى قراءة سيرذاتية ؟ هل سنبحث عن مبرر آخر أم أننا سنتبنى رأيا لأحد النقاد العرب كنت قد وقفت عليه يبرر لنا هذا التوجه مفاده أن الروايات العربية ما زالت كلها روايات أولى ، وبالتالي فهي سير ذاتية ؟!

إشكالية الرواية والسيرة الذاتية :

إن الخلط بين جنس السيرة الذاتية والرواية ربما كان من أهم الأسباب التي أدت إلى استشراء المنهج السيرذاتي في نقد الرواية السعودية . وهو خلط لا يمكن قبوله وتبريره وإن كنا نتفهم حدوثه نظرا لتداخل هذين الجنسين السرديين أحيانا . ولكن ، ما الرواية وما السيرة الذاتية ؟ الرواية في أبسط تعريفاتها " نص سردي تخيلي " ، أما السيرة الذاتية فهي في أبسط تعريفاتها أيضا " نص سردي توثيقي حقيقي " ، فالفرق يكمن في كون الرواية تخيلية الأحداث والشخصيات وبالتالي لا تطابق فيها بين الراوي /البطل والمؤلف ، أما السيرة الذاتية فهي حقيقية /واقعية الأحداث والشخصيات ويتطابق فيها المؤلف مع الراوي/البطل . لكننا نعتقد أن الاعتماد على الأسلوب أعني الأبعاد الشكلية والتقنيات السردية وحده في التفريق بين هذين الجنسين الأدبيين لن يكون مسعفا وربما يكون أحيانا غير مجد . فكثير من الروايات توظف بعض التقنيات السردية السيرذاتية ، وكثير من السير الذاتية تستثمر هي أيضا بعض الأساليب السردية الروائية بما فيها الخيال . ومن هنا جاء جنس ما يسمى " برواية السيرة الذاتية " أو " السيرة الذاتية الروائية " أو " الرواية السيرذاتية " ... إلخ ، وهي مصطلحات يكثر استدعاؤها في الدراسات النقدية التي وقفنا عليها . ومن الملاحظ أن أغلب النقاد يوظفون – بوعي أو بدون وعي – هذا المصطلح في دراساتهم ليعني دلالة واحدة تخدم اطروحتهم حول سيرذاتية الرواية السعودية ، ويهملون دلالاته الأخرى المحتملة . فهذا المصطلح يعني لهم غالبا أن الكاتب يتخذ الرواية قناعا له لكتابة سيرته الذاتية . لكنهم نادرا ما التفتوا إلى دلالة أخرى مهمة لهذا المصطلح ، وهي أن بعض كتاب الرواية يوظفون بعض تقنيات السيرة الذاتية السردية وأساليبها ( مثل ضمير المتكلم ، والسرد الكرونولجي المستقيم للوقائع والأحداث ، والاسترجاع ...إلخ ) دون أن يعني ذلك أن الكاتب يكتب سيرته الذاتية .
إن أهم ما نملك حقيقة للتفريق بين الرواية والسيرة الذاتية هو " الميثاق السيرذاتي " في صورته الجديدة التي أخرجه فيها فليب لوجون ، عندما أعاد النظر في تعريفه القديم للسيرة الذاتية وسمح لإمكانية أن يكون الخيال عنصرا من عناصر بعض السير الذاتية . وميثاق السيرة الذاتية هو عقد يبرمه الكاتب مع قارئه عندما يعلن الكاتب في نصه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة عن قصده لكتابته سيرته الذاتية . ويتخذ هذا الإعلان أو التصريح أشكالا متعددة كما نعلم ، مثل تطابق اسم المؤلف مع اسم البطل ، ووجود كلمة مثل سيره ذاتية في العنوان أو على الغلاف ، أو تصريح الكاتب في المقدمة أو في النص بأنه يكتب لسبب أو لآخر سيرته الذاتية ...إلخ . فمقصدية الكاتب هي في نظرنا العامل الحاسم في تحديد هوية النص السيرذاتية ، وفي حالة غياب أي أثر لميثاق السيرة الذاتية في النص السردي ، فهذا النص هو رواية لا غير . ولكن ، ألا يمكن أن يكون القارىء أيضا هو - مثل الكاتب - محدد لسيرذاتية النص السردي من خلال قراءته له على أنه سيرة ذاتية ؟ نقول إن من حق أي قارىء أن يقرأ كما شاء ، لكن قراءته هذه لن تكون قراءة قوية ولا مقنعة ولا مبررة نقديا ، وقد تسيء إلى النص كثيرا إذا لم تكن مبررة فنيا .

جناية النقد السيرذاتي :

إن المبالغة في ممارسة النقد السيرذاتي للرواية السعودية له - في اعتقادنا - آثار سلبية كثيرة على النص الروائي ومبدعه ، وربما كانت هذه الآثار السلبية معيقة لهما أحيانا . فالنقد السيرذاتي يسطح العمل الروائي ويفقره ، وذلك من خلال تركيزه على جانب واحد ضيق من جوانب النص ، هو الجانب الفكري المضموني ، وإهماله لتحليل التقنيات السردية والأبعاد التخيلية للنص . فمعلوم أن جماليات السيرة الذاتية وأسرار وجودها مرتبطة ومرتهنة إلى حد كبير بما تحويه ( أو يعتقد أنها تحويه ) من بوح واعتراف وسرد صادق للحقائق التي تخص حياة كاتبها . فالرواية ينبغي ألا تختزل في مضمون سيرذاتي أحيانا يلصقه الناقد بها ، لأنها ليست سيرة ذاتية ، بل إن ما يسمى رواية السيرة الذاتية ينبغي – من وجهة نظر بعض النقاد – ألا " تقرأ على أنها سيرة ذاتية ، فالرواية عمل فني ، والفن في الإنسان طاقةُ حرية " . كما أن التركيز على سيرذاتية الرواية قد يكون أحيانا وسيلة هروبية من مواجهة العمل الروائي الجاد والتعامل الفاعل معه ، إذ إن النقد السيرذاتي لا يستلزم قراءة معمقة للنص ، فهو مسعف خاصة لبعض من يمارس النقد الروائي الصحفي . لذلك ، ليس بمستغرب أن نسمع احتجاجات المبدعين على مثل هذا النقد الذي كثيرا ما يحوم حول النص دون أن يلج فيه . وأعتقد أن نقد الرواية في بلادنا لن يقوم بدوره كما ينبغي إلا إذا اطرح هذا المنهج ( أو خفف على الأقل من سطوته ) وتوجه مباشرة إلى النصوص الروائية يحللها ويبحث في بنياتها ويدرس التقنيات السردية الموظفة فيها ، وبهذا يصبح النقد معينا للقراء في تلقي هذه النصوص تلقيا مثمرا يحقق لهم المتعة والفائدة ، وموجها للكتاب وآخذا بأيديهم إلى ارتقاء مدارج الإبداع .
أما فيما يتعلق بالأثر السلبي الذي يلحقه هذا المنهج النقدي السيرذاتي بالروائي أو المبدع ، فإنه يكمن في الربط الحرفي بينه وبين أبطال رواياته ، وهو ربط كثيرا ما يوقع الكاتب في حرج شديد مع نفسه ومجتمعه ، ويحد من إبداعاته في رسم شخوص رواياته واختلاق أحداثها وبنياتها ، خاصة عندما يتحول هذا النقد السيرذاتي إلى محاكمة اجتماعية أو أخلاقية له . إن الأدباء عموما والروائيين خصوصا يعالجون في نصوصهم الإبداعية غالبا موضوعات شائكة ومثيرة ومسكوتا عنها ويجسدونها في أحداث تقوم بها شخصيات مختلقة تظهر في بعض الأحيان أكثر واقعية من الشخصيات الحقيقية ، فلا يعقل أن نربط هذه الشخصيات بكتابها، وأن نطرح في كل مرة نقرأ فيها نصا روائيا سؤالا مثل : هل هذه الأحداث أو بعضها وقعت للكاتب الروائي نفسه ؟ ، ثم نجري عملية بحث وتحر نقارن فيها بين شخصية بطل الرواية وحياة الكاتب . وأخيرا ينبغي علينا أن نتذكر دائما أن الروائيين هم مثل الشعراء قد يقولون ما لا يفعلون .
لقد حاولنا في هذه الورقة أن نلفت الانتباه إلى استشراء ما سميناه بالنقد السيرذاتي للرواية العربية السعودية وأن نشكك في مشروعيته ، ونقلل من أهميته في الارتقاء بالنص الروائي وبإبداع كاتبه وبتذوق متلقيه . نعترف بأن القراءة السيرذاتية لبعض الروايات السعودية قد تبدو أحيانا قراءة مغرية لأسباب عديدة ، ولكن علينا دائما أن نقاوم هذا الإغراء ما استطعنا إلى ذلك سبيلا ، فكثيرا ما تكون مثل هذه القراءة مبنية على الخيال أكثر منها على الواقع .

*ملحوظة :

نشرت هذه الدراسة في علامات ( ج51، م13 ، محرم 1425هـ / مارس 2004 . ثم نشرت ضمن أعمال ندوة " الرواية بوصفها الأكثر حضورا " التي أقيمت في نادي القصيم الأدبي في الفترة من 30/12/1423هـ - 4/1/1424هـ وقد حذفت الهوامش هنا للاختصار.