بحث في الموقع

حسين المناصرة

يعد الروائي احمد الدويحي ساردا شغوفاً بالذاكرة، اذ تشكل ذاكرته المأزومة محركاً رئيساً في توليد كتاباته الروائية والقصصية والنقدية، ولابد من ان تجد في كتابته بنية اجتماعية متأزمة سواء أكانت عن طريق الاختلاف، ام المرض، ام الموت، ام الغرائبية، مما يعني انه مسكون بتفجير الذات متمثلة بالذاكرة الشخصية في واقع يتجاوز المحلية الاجتماعية الى العالمية الانسانية في كثير من الاحيان ، متكئا في ذلك على ثقافته الواعية وقراءته النهمة، وايضاً على سخرية سوداء تتناثر بعفوية او عبثية، في مظهرها نكتة سطحية، وفي جوهرها لاذعة سابرة!!
كتبت في الماضي دراستين عن الدويحي، احداهما بعنوان «قالت فجرها للدويحي بين ذاكرتي القرية والمدينة»، وهي قراءة لمجموعة قصصية، قدمتها في منتدى القصة في جمعية الثقافة والفنون، والثانية بعنوان «ذاكرة التداعي والهذيان في رواية المكتوب مرة اخرى للدويحي» قدمتها ايضاً في منتدى القصة في جمعية الثقافة والفنون،وقرأت بعض نصوصه الاخرى في الرواية والقصة والنقد، فكان كما ذكرت شغوفا بذاكرته المأزومة المليئة بالكثير والكثير من الاشياء التي بامكانه ان يقولها من خلال تداعيات الذاكرة التي يتلاعب بها، فيسعى الى اخفاء آثار نفسه والآخرين من بين سطور كتابته السردية، لكنه لا يستطيع ان يخفي جلده وعقله وقلبه.. بوصفها شلالات الكتابة لديه!!
لا اريد ان ادخل في مجال الرواية السيرية التي يبدو انها تفهم احيانا من منطلق غير ادبي، لكن ما يهمني هنا هو التأكيد على ان الرواية الجيدة لاتكتب بعيدا عن تجربة حياتية ثرة، وبجانبها ايضاً تجربة ثقافية ثرة.. وهاتان التجربتان سمتان تطبعان شخصية الدويحي وكتابته.
فعندما قرأت مجموعة الدويحي القصصية «قالت فجرها» ادركت ان الذاكرة لديه تحمل التضاد بين ثقافتي القرية والمدينة، بوصفه عاش فيهما كلتيهما، فكانت الكتابة السردية مأزومة بهذه الذاكرة التي تعني الانتقال من جنة القرية الى جحيم المدينة على اية حال!!
وعندما كتبت عن روايته «المكتوب مرة اخرى» ادركت بأن الصمت الذي حاصر بطله بسبب المرض والعجز، لم يستطع ان يحاصر الذاكرة التي يتداعى هذيانها، فتنتهي الرواية.. ولم تنته تداعيات الهذيان!!
وهذه الذاكرة نفسها تسكن روايته «اواني الورد» فترينا الكتابة المقطعة المتداخلة في سياق بطل شبه وحيد يتماس مع الدويحي كثيرا، فنرى من خلال ذاكرته تداعيات ثلاثية: يوميات العزلة، وارتحالات الروح والجسد، وحرب التماثل.. فيبدو الدويحي من خلال هذه الرواية «دونكوشوتيا» في عزلته وارتحالاته وحروبه.. او بالاحرى هذه هي شخصيته التي تفقد معنى الحياة ان اظهرت اهتماماً ما بالحياة!! انه ذاكرة مفتوحة استطاعت ان تنتج ستة كتب في السرد، وبإمكانها ان تكتب اكثر ما دامت الرواية تتسع للكتابة المفتوحة على العالم في سياق الكتابة عبر النوعية «تداعيات الكتابة الشعرية» على حد تعبير ادوار الخراط!!
هكذا يبدو الدويحي واحدا من الذين لايمكن ان تنساهم مدى الحياة، حيث يشعرك عندما تلتقي به انك في كومة من الاشكاليات والقضايا التي تحضر بوصفها خلافية، بل صدامية بطريقة او باخرى، وليست كتابته الابداعية كما اسلفت ببعيدة عن شخصيته، لانه يكتبها من احتراق ذاكرته المكلومة، ومن علاقاته وصداقاته المتشعبة «البائسة» وهو ينتمي الى المكان وما فيه من موروثات شعبية وعبارات ساخرة.. ويفعّل ثقافته الواعية في جماليات سرده!!
كأن الدويحي ممن لا تهزهم الريح مهما كانت نوعيتها، ودرجة البؤس فيها، إنه، كما يظهر، ممن يقهرون عظيم المآسي، فتتساوى عنده كما عند شخصيات قصصه معاني الموت والحياة!!
إن الموت مؤلم..!!
ومؤلم اكثر عندما يخطف فلذات الاكباد..!!
لكنه شكل من اشكال الحياة في الكتابة الابداعية!!